بقلم : الخضير قدوري
كل مسئول يأتي إلى هذه المدينة يجد مكتبه مكيفا ومؤثثا يظهر له في أحسن حال، كما يجد هناك بطانة تبدو ناعمة كالحرير،فإذا هي من وبر خشن تندس في طياته أشواك موخزة وبالأحرى حصير، مغرورون من يجعلون من يومهم خمرا ومن غدهم أمرا ويحسبون الدنيا باقية لهم وان لم تكن باقية لمن سبقوهم ، مساكين من قد أعمتهم نشوة الصعود العظيم على أجنحة السلطة إلى أعلى عليين واغفلتهم الهبوط الأعظم إلى أسفل سافلين .
كذلك يمشي المغرور مزهوا بين صفوف المستقبلين على الشمال واليمين ،ويعجبه الجلوس بين أنواع من البشر وأشكال من بني ادم ،كلهم أصناف ومن كل المعادن يندر بينهم الذهب .فليختار قرينه ومع أيهم يكون وشاكلته وعلى أيهم يقع
بطانة لولا انه مشى عليها بأقدام حافية ،أو جلس بين نمارقها المعدة مستندا إلى متكئاتها الهشة وسط ذلك الزخم من الموسيقيين ،والملحنين والمغنين الذين يعرضون على مسمعه انتاجاتهم ،وما جادت به قرائحهم من أعذب الألحان والأغاني المحركة للوجدان ،فيطاف عليه بأكواب من شراب يجعله يتفاعل كيف يشاء مع إيقاعات لم تلبث إلا ساعة أوضحاها فيضحى أصحاب هذا النوع من الألحان والأجواق من أول المقربين الذين يعتمد عليهم في غدواته وروحاته، ويستمع إليهم في اجتماعاته وقراراته وهم لا يلوون عليه إلا بهز الرؤوس من أعلى إلى أسفل وبالتصفيق أحيانا بذلك يؤثرون على توجهه السياسي والاجتماعي والثقافي تأثير خمرة على لب شارب، حتى لم يعد يتحكم في نفسه الأمارة التي تلقي به من حيث لا يدري بين أحظان الرذيلة ، وفي مستنقع الفساد الذي يصعب عليه فيما بعد الطواف على سطحه طالبا النجاة لنفسه .هيهات يفيده بعد ذلك وعظ واعظ او يجديه إرشاد مرشد
هي قلة قليلة من رحمها ربي وأراد بها خيرا فلم يجعل إقامتهم تطول كثيرا في مدينة المترفين الذين أمرهم الله ليفسدوا فيها إلى أن يحق عليها القول ويعلم بعد ذلك ماهو فاعل .أما غيرهم فقد مدد لهم ووسع ومتعهم ما شاؤوا وجعلهم يصعدون في مناكبها صعودا عظيما ويأكلون من ترابها ويملاؤون البطون ، لكن في التالي قد يكون هبوط بعضهم أعظم رغم ما ادركوه من الأموال، وراكموه من الثروات . فقد كان خروجهم منها اذلاء صاغرون مدحورون مغضوب عليهم ، قد لا يختلف حالهم عن حال المطرودين ممن لم يعد في مقدورهم المرور في شوارعها كمرور الكرام .وبالأحرى الوقوف على أرصفتها خوفا وخجلا من النظرات الشزرة والإشارات الشريرة وربما الرشق بالحجارة
عندئذ يصبح الضمير هو المخاطب المؤنب ، والتاريخ هو القيم المتحكم ، وليس ثم من عقاب أقسى من عقاب الضمير، ولا حسابا أصعب من محاسبة التاريخ لمثل هذا المسئول الذي يقضى السنين الطويلة القصيرة يمارس سلطته كيف يشاء، وليس ثم من يقول له قف ،أمامك علامة قف ،وليس ثم من يقول له انتبه ،أمامك ضوء احمر، أو ثم من لا ينحني تملقا وتدلقا لكبريائه وجبروته ، وليس بينهم من يقرئه حساب الغد فيراعي حرمة اليوم الأخير عندما يقال له قف رغما عن انفك ،وضع جبينك على تراب طالما دسته بحوافرك ،انزل من برجك العاجي وترجل عن سيارتك الفاخرة ،وتنحى عن مكتبك المكيف لتصافح اليوم أياد قذرة مودعا هذه الأجواق النشزة التي بدأت تنظر إليك نظرة عطف وإشفاق وهي لا تجد لك سوى إيقاعات الرثاء ،وكأنها تشيعك ميتا إلى مثواك الأخير، أو تعزيك في اعز أناس إليك ،وفي نفس الوقت تبرئ ذمتها مما ينسب إليك وأنت تنظر إليهم نظرة المتأسف والمتحسر يتملكك الأسف على ما فات ،ويعذبك الضمير ويدغدغك الندم ،وحالك المرثى لا يختلف عن حال محتضر يحوم بناظريه حول القوم الذين لم يكن يغيب عنه سوى من أساء إليهم بفعله أو قوله، وليس بينهم من يقرضه جرعة ماء ليته يتخلص من أطياف تلاحقه في نومه ويقضته، ولا خطر بباله سواهم في غدواته ورواحاته ،ولكن بمقابلهم أناسا قد أسدى إليهم صنيعا بالأمس، واغدى عليهم من كرمه اليوم ،قلما يذكرونه يوما كما يذكرون أمواتهم بخير.
كيفما كان الحال تبقى لحظة الوداع صعبة وقاسية ،وأصعب منها وأقسى لحظة الفراق بلا توديع ولا وداع .فهل ينسى صاحبنا أو يتناسى أو يجهل ويتجاهل أن هذه الدنيا لو كانت تدوم لغيره لما وصلت إليه. وإنما جعل الله أيامها دولا بين الناس، يوم لهم ويوم عليهم .وهل يدرك أولو الألباب أن حال الدنيا أخرها الفرقة والقطيعة، وما حياتها إلا متاع الغرور. قد يرغب المغترفي النوم ملء عينيه ثانية واحدة لكن يأبى النوم أن يهجر أجفانه ويطلب الأحلام فتأبى الأحلام إلا أن تغادر مضجعه كذلك شاء الضمير ليجعله يتقلب على جنبيه وهو لا يجد مفرا من لسعات سياط أطياف الذين أساء إليهم وهي تلازمه ككوابيس تطارده في منامه ويقضته ،وحتى عند نزعته الأخيرة . لم تبق له منها سوى دموعا حارة ، وغصات أليمة ترافقه إلى عالمه الأخر، هناك ستخاصمه أمام قاض عادل حيث لا ينفع مال ولا بنون ،ولا يجديه من الويل جاه ،ولا ينفعه مع الثبور دعاء ولا شفاعة متشفع ومؤازرة وزير. فالي أخر لحظة من عمر سلطته، حيث دعا إلى نفض الغبار و الافراج عن ملفات طالها النسيان على رفوف متهالكة ، وحطمها الزمان في قاعة الانتظار. ولئن جاد قلم كرم مسئولنا بالتوقيع على مخلفات السنين في حينها في إطار مبدأ كما تعاملني أعاملك يا زميل لعلك تذكرني بجميل .هيهات
هيهات كم دام مقامه بيننا كغريب أقام صرحه على الثلوج، فلما أشرقت الشمس ذابت وعزم غريبنا على الخروج . كيفما كان حاله فقد ألمنا فراقه وعز علينا وداعه
هكـــــــــدا يرحلــــــــــــون
[youtube]http://youtu.be/0WUgGicKlR0[/youtube]
[youtube]http://youtu.be/qQcNI_LPKr4[/youtube]