المغرب والجزائر والحرب الباردة .

بقلم : الخضير قدوري 

إن كانت الحرب الباردة قد انتهت بانتهاء المعسكر الشرقي، فان دخانها المسموم مازال يخيم على سماء الجزائر والمغرب مشحونا بحمولات قابلة للانفجار في أية لحظة  ،وان كان هذا المعسكر قد سقط بسقوط  جدار برلين ،فان معاودة تشييده بين المغربين محتملة، مادام البلدان يشكلان ضدان لا يلتقيان ،وعدوان لا يجتمعان ولو بعد قرن من زمان  مضى نصفه وقد يمضي كله ،وسيبقى الحل العسكري واردا في كل زمان ومكان، مادام العسكر الجزائري يتشبث بشعاره الخالد ” ما لم يتحول الماء الى حليب ،سيبقى المغرب عدوا  لن يتحول إلى حبيب” شعار قد ردده بعض قادة الحزب الحاكم عشرات المرات .ونحن نقول ربما لو يتحول النظام الملكي في المغرب  الى جمهوري، او النظام الجمهوري في الجزائر الى ملكي ،وقد يكون هذا الأخير اقرب الى الصواب

      حول برنامج إعلامي أعدته قناة ” ادزاير نيوز” يوم الجمعة 13 من الجاري، طرحت فيه للنقاش موضوع ما أسمته” التشويش المغربي على الأداء الجزائري ” بشان اللقاء الحواري للبرلمان الليبي المنعقد في المغرب تحت إشراف الأمم المتحدة ،وكذا استضافة بعض الأحزاب السياسية الليبية  تحت إشراف الأمم المتحدة في الجزائر، فما الضير حتى تتهم الجزائر المغرب با لتشويش عليها كمن يريد ان ينتزع منها زعامتها في إصلاح ذات البين بين الليبيين، علما بان الجزائر منذ أزلها كانت ومازالت تعاني من عقدة الزعامة المغاربية والإفريقية والوطن العربي ككل، وتطمح إلى الوصول لهذا المبتغى بأي ثمن ،وهذا امر قد يهم الجزائر لوحدها   

   كما عابت معدة البرنامج على السفير المغربي في مصر  تصريحه بتواجد الجمهورية الوهمية على ارض تندوف ،باعتباره هذه الأخيرة  أرضا مغربية فوصفت النظام المغربي بالتوسعي ،لاشك ان السيد السفير بتصريحه هذا قد أصاب الهدف في صميمه واثأر حفيظة الحكام الجزائريين، وهذا ما كانوا يتخوفون منه رغم الصمت المغربي المطبق على هذه الحقائق ،إلا أن ضيوف الحلقة كانوا يتجنبون الخوض في مناقشة الطرح ،ويكتفون بإلقاء اللائمة على الغرب واسرائيل مجاملة للمضيفة وهم لا يجهلون هذه الحقائق

    وعندما يتحدث المحللون والسياسيون عن مستقبل العلاقة المغربية الجزائرية ،وعن إقلاع محتمل للمغرب العربي في اتجاهه الصحيح ،قد يبدو ذلك في نظري نوعا من الهراء، وأضغاث أحلام بعيدة كل البعد عن الحقيقة والمنال  ،ومن عاشر المستحيلات في الوقت الراهن ، لست متشائما فيما صرت اليه بالقول حتى لو كنت اعلم يقينا ان الماء لن يتحول الى الحليب ،فالمشكل القائم حاليا بين الدولتين ومن يعطل إقلاع المغرب العربي الكبير،  ليست الصحراء المغربية او الغربية ، وليست المبادئ السياسية وحقوق الإنسان ، وليس التطرف الديني والمنظمات الإرهابية ،داعش والقاعدة  والسلفية والجهادية وغيرها ، وليس الغرض منه تقرير مصير شرذمة من المرتزقة ، ولا الهدف منه الدفاع عن حقوق الشعوب . وإنما كل ذلك كان مجرد مصطلحات سياسية فضفاضة هي ابعد ما تكون عن الواقع واصل الخلاف بين المغرب والجزائر، وكل ما ذكر يبقى مجرد شماعة تعلق عليها الأسباب الحقيقية المتمثلة في ترسيم الحدود بين الجارين أولا ،وتسوية مشكل الصحراء الشرقية ثانيا ، ومن ثم تجاوز الجارة الشرقية الأحقاد الدفينة والسياسة القديمة ،ونبذ الأفكار اللينينية والماركسية التي أكل عليها الدهر وشرب ،وألقى بنواتها كورباتشوف في مزبلة التاريخ ،يوم أمر بكسر جدار يفصل بين شعبين ويقسم برلين الى نصفين ،ثم جمع بين الأخوين. سياسة قد رفضها حتى الشعب السوفياتي برمته ، وداس عليها  بأقدام حديدية عندما وجدها غير مجدية في حاضره ومستقبله ،حيث مازالت جارتنا تطارد طيف خيالها وتحن الى ماضيها الأسود ،الذي مازالت كل  الشعوب السائرة في ركبها  تعاني من أثارها وويلاتها التي لم تجر إليها سوى الفقر والمجاعة والمرض والجهل والأمية

   تلك السياسة التي انتهجها الثوار العسكريون في زمان مراهقتهم ،بعد ان جاءوا بها على ظهور دباباتهم من اجل تجويع الشعوب وإخضاعها لإحكامهم ، ومراكمة بعض الثروات وتكديسها في البنوك الغربية لحساباتهم ، ثم أسرفوا الباقية في شراء خردة الأسلحة من المصانع الغربية ،لأجل مساندة الثوار في كل مكان ، ونصرة الانقلابيين في كل الدول المعادية للمعسكر الشرقي . وقد عانى النظام الملكي في المغرب كغيره معاناة قاسية من هذا التشويش الحقيقي الذي مازال النظام العسكري في الجزائر يحلم بإسقاطه، بعد ان حاول جاهدا استقطاب فعاليات عسكرية من الداخل والخارج للقيام بانقلاب ضد الملك الحسن الثاني ، على غرار ما قام به الهواري بومدين ضد بن بلة ،ومعمر القذافي ضد الملك ادريس السنوسي ،كل ذلك  بمساندة ومساعدة المعسكر الشرقي الذي عمل على محو كل الأنظمة التي تنتمي للمعسكر الغربي، وفي طليعتها الأنظمة الملكية في الوطن العربي بدءا من ليبيا والمغرب، مرورا بالإمارات الخليجية وصولا الى العربية السعودية .وقد ظن الحكام العسكريون الجدد في الجزائر آنئذ أن النظام الملكي الذي عمر أكثر من 12 قرنا يمكن إسقاطه بهذه السهولة .فكان ذلك من الاسباب الحقيقية للعداء  بين نظام اشتراكي عسكري وثوري ينتمي للمعسكر الشرقي ،ونظام رأسمالي ديمقراطي وملكي ينتمي للمعسكر الغربي ،وبالتالي أصبح النظام الجمهوري في ليبيا والجزائر قلما  يختلف عن النظام الملكي في العالم ،فقد ظل الزعيم القذافي ملكا على الجمهورية العظمى ،ويطمح الى إمبراطورية افريقية او عربية لو دامت له الدنيا ، كما ظل بوتفليقة ملكا على الجمهورية الجزائرية  مدى الحياة ،وربما سيتضمن تعديل الدستور القادم بندا لولاية عهده قبل وفاته . في حين تبقى كل المناوشات العسكرية والسياسية والدبلوماسية بين الجارين الى اليوم ،مجرد رواسب أفكار تلك الحقبة التي مازالت تترسخ في أدمغة العسكريين الجزائريين القدامى ،الذين مازالوا يتمسكون بزمام الحكم الى اليوم ،حتى وان كان هؤلاء سينقرضون عن بكرة أبيهم سيجدون في محيطهم العائلي من سيخلفونهم ويسيرون في أثرهم ،قلما  ستتبدل او تتغير أفكارهم وترقى الى مستوى فهمهم الجيد  لهذه الحقائق التي فوتت على الشعبين الشقيقين فرصا ذهبية ، من المفروض ان تجعلهما شعبا واحدا متكاملا بحكم القرابة والجوار، وبحكم الأواصر التي تجمعهما يعيشان في بحبوحة واستقرار، وتعاون يجعل الدولتين أقوى الدول في جنوب الأبيض المتوسط ، كلاهما في غنى عن المعسكر الشرقي والغربي بما حباهما الله به من الثروات الطبيعية والبشرية  

    كل هذه المشاكل والحلول مازالت مطروحة على مائدة الحكومة الجزائرية ، وحدها من يمكنها ان تحلها او تعقدها .وربما يكون المغرب في اعتقادي قد ارتكب بعض الأخطاء بحسن النية فهو يجني ثمارها اليوم، ويتعلق الأمر بمشكل الحدود الذي لم يقبل بتسويتها مع الاستعمار الفرنسي بموافقة الجزائر منذ نصف قرن خلا ، لأنه لا يريد بذلك التشويش على استقلالها .ثانيا ولما كتب عليه بعد ذلك خوض حرب 1963 لهذا السبب كان عليه ان يطرح هذا المشكل على مائدة المفاوضة في “بماكو “حتى يبث فيها بصفة نهائية ، لو فعل لما اصبح مشكل الحدود كضرس مسوس لن يهدا المه الا بانتزاعه ،ولما بات مشكلا من المستبعد تسويته دون تدخل عسكري مرة اخرى ،وأما الخطأ الثالث فانه يتمثل في عرضه قضية الصحراء على المحكمة العدل الدولية في حين كان من المفروض ان يعرض بدلها او بمعيتها  قضية الحدود مع الجارة الشرقية

     ولحدود الساعة لو كان المغرب سيتوجه الى المطالبة بتسوية هذا المشكل باعتباره أساسيا، ويجعله من أولى أولوياته .لما كان ذلك سيسمح بتعميق الهوة وتوسيع الشقة والدفع  به الى التطاول للتدخل في شئونه الداخلية، الى حد تبني حكام الجزائر لشرذمة من التلاميذ المارقين لم يتجاوز عددهم بعض العشرات مضيفة إليهم بعض المختطفين والمرتزقين من جنوبها وشمال دول جوارها فتجمعهم على ارض مازال النزاع قائما بشأنها ويتعلق الأمر بتندوف  التي تريد الجزائر ان تصنع فوقها كيانا باسم جمهورية وهمية كما ذكر السفير المغربي في مصر الذي أغاض بتصريحه حكام الجزائر، وما اعتبره السفير تشويشا حقيقيا على المغرب  المراد  به   مقايضته بالتخلي عن حقه في الصحراء الشرقية  

    فإذا كان المغرب يشوش على الجزائر في القضية الليبية ،كأن هذه الأخيرة لم يكن بها شعب قد ثار أمس ضد نظام أذاقه المرارة على مدى عشرات السنين ،حينما كان نظيره الجزائري  حليفا وظهيرا عليه  وبمعيته ومعونته أراد هذا الأخير أن يفتت وحدة المغرب ويشرد شعبه ويسقط نظامه ،وكأن النظام الجزائري لا يعلم ان  بداخل هذا البلد شعب قد تعاطف معه المغرب على مدى عشرات سنين الاضطهاد تحت حكم  النظام البائد، في حين مازال هناك أيضا طائفة منه شبت على حب رضاعها من ضرع نفس النظام ، ممن لم يستسيغوا الفطام بعد ان ترعرعوا الى ان شابوا في  بحبوحته ومازالوا يحنون الى ماضيه ،وهم لا يجدون لهم مكانا إلا في أحظان مواليه وأصدقائه أمر طبيعي ، ولكن هل كان المجتمعون من اجل الحوار مرتزقة قد جاء بهم المغرب من دول اخرى ليمثلوا الشعب الليبي على ارضه

   المغرب لم يشوش على الجزائر عندما كان يساندها ماديا ومعنويا وسياسيا واجتماعيا ،ويشاركها في محنتها .وحينما كان يأوي شعبها وقادتها وزعماءها ويقتسم معهم رغيفه ويشاركهم سراؤهم وضراؤهم وأحزانهم وأفراحهم ،ومن اجلهم دكت مدينة وجدة التي جعلها قاعدة خلفية لثوارها بقنابل طائرات عدوهم . لم يشوش المغرب على الجزائر بالتدخل في شئونها الداخلية بعد الاستقلال او يقبل بإيواء معارضي نظامها ، فينصب لهم الخيام والسرادقات على تخوم حدوده ،فيصنع لهم من ألوان القماش أعلاما ترفرف في سمائها لتعلن عن قيام جمهوريات وهمية ، ويرفع لهم لافتات بشعارات تطالب بالاستقلال والانفصال . لو كان الحكام الجزائريون يتصورون ذلك لما كانوا يقبلون على ما اقبلوا عليه ،او كانوا سيقيمون  الدنيا ولا يقعدوها ويعلنونها حربا على المغرب حتى لو كان رئيسهم أخرها

 ولما كانت الجارة الشقيقة  صاحبة المبادئ السامية التي تساند الشعوب المستعمرة في تقرير مصائرها ،فهلا كان جارها الذي أسدى إليها هذا الصنيع كله  أولى بمساندتها أثناء حادث جزيرة ليلى ؟ فليتها لم تسارع فقط الى التنديد دون غيرها ضده ، وليتها كضمت غيضها فلم تطعن في ظهره بخنجرها المسموم ، لم يكن المغرب يرغب عن مطالبته باسترجاع مستعمراته الاسبانية ،ولم يكن غير قادر على ذلك، ولكن هل ستلتزم جارتنا الحياد فلا تتدخل في شئونه ولا تسعى بجهدها الى خلق دويلة في مليلية ،وأخرى بجوارها في سبتة ،وثالثة غير بعيد منهما على جزيرة ليلى، وأخريات على الجزر الأخرى على غرار الجمهورية الصحراوية الشعبية الاشتراكية الديمقراطية في جنوبه ، وهي قادرة على ان تبذل من اجل ذلك غاليها ونفيسها وتضحي بمليوني شهيد اخرى وبحياة  كل شعبها نتمنى ان يكون ذلك كله سيريح ضمير حكام جارتنا ويشفى غليلهم  ،فالمغرب لا يطالبها بان تساعده او تسانده او تناصره او ترد إليه قليلا من الجميل وفق شعارها الرامي الى محاربة الاستعمار، الم تكن هذه الأراضي المستعمرة مغربية ؟  وربما كانت السبب الذي جعل المغرب يفضل ان ينام بجانب عدوه حذرا ولا يفضل ان ينام بجانب صديقه مطمئنا  

    حتى لو كان المغرب سيفاتح اسبانيا في هذا الموضوع كانت  الجزائر ستتهمه  بالتوسع وما استرجاعه  لصحرائه الجنوبية بالطرق  السلمية  لخير دليل ،بفضل السياسة الرشيدة للملك العبقري الحسن الثاني مبدع المسيرة الخضراء، دون خسائر مادية ولا إزهاق أرواح بشرية  .ربما قد اثر ذلك في الجارة الشرقية التي تقيم استقلالها بمليون ونصف مليون شهيد ،وتريد أن يفعل  المغرب مثلها ولكن دم الإنسان المغربي  بالنسبة لنظامه كان اغلي ، وهو أجدر بان يفتدى ويقايض بما هو اغلي وأثمن ،إلا أن يقايض  بإنشاء  كيان دخيل على أرضه او يساوم من اجل حبة رمل في صحرائه .   

    ولما كانت الجزائر كبيرة بأراضيها الشاسعة التي تضاعف ارض المغرب خمس مرات  ، وهي غنية بثروتها البترولية  التي تذر عليها أموالا طائلة ،إلا ان شساعة أرضها وعائدات نفطها وغازها لم يوفر لشعبها الاكتفاء الذاتي من الطماطم والبطاطا ،ولم تغن فقراءها الذين يسكنون تحت الأنقاض القصديرية  في أطراف المدن القديمة ، ولم تضمن لهم العيش الكريم في وطنهم وتكفيهم شر التياهان في الدول الغربية ،والانتحار على قوارب الموت في أعماق البحار. ليس أمثال الشعب الجزائري في ليبيا بالأمس ،وفي السعودية وقطر والبحرين ،وأبو ضبي والإمارات وغيرهم من شعوب الدول البترولية ،من يعيشون هذه المأساة     القاسية وقد لا يختلف حالهم عن حال شعب مالي واتشاد ونجيريا وغيرهم . من العار ان تذهب  كل عائدات البترول الجزائري أدراج الرياح  من اجل المراهنة على الزعامة والقيادة والتشويش على دول الجوار، لكن الشعب الجزائري كغيره من شعوب المنطقة قد يرفض هذه السياسة، فالزعامة والقيادة ان تعيش هذه الشعوب في أوطانها بكرامة ،وان تنعم باستقرارها المادي و بعدالة اجتماعية في اقتسام  الثروات التي تحتكرها الطغمة  الحاكمة في كل وطن، ومن السياسة الرشيدة ان يوفر هؤلاء من يسمون أنفسهم  قادات  وزعماء  العيش الكريم والأمن والاستقرار لشعوبهم ، وليس من الحكمة تصدير الفتن الى بعضهم  لصرف أنظارهم عن مطالبهم المشروعة ،ترى متى تريد هذه الشعوب الحياة فتستجيب لقدرها ،ثم تكسر القيود التي تدمي معاصمها، وتدوس على المعالم الحدودية التي تفصلها، وترفع كل الحواجز التي تقف في وجهها وتؤمن بان زمن التشرذم قد ولى وعاد زمن التكتل ليواجه التحديات الكبرى.