بقلم : الخضير قدوري
قديما ذكر احد الحكماء من مضنيات القلوب ثلاثة قيل، قنديل لا يضيء وحمار لا يمشي، ثم كتاب لا يقرا. إلا أن مضنيات القلوب حديثا وفي زماننا هي عديدة ومتعددة.
وفي إطار سياسة الدولة كسياسة المدينة ،أصبحت الحكمة القائلة تنطبق على مدينة كل ما فيها يضني القلب، كمدينة تاوريرت مثلا، دون أن تنحصر مضنيات القلوب فيها عند عدد معين وصفات محددة ،هذه المدينة التي أصبح وضعها الاجتماعي والسياسي والثقافي رغم ما تتوفر عليه من إمكانيات اقتصادية وطبيعية وموارد بشرية مهمة ،وبحكم موقعها الجغرافي الاستراتيجي المتميز الذي يجعلها كمدينة لها مستقبل واعد وعاصمة إقليم يعتبر من أغنى الأقاليم الشرقية من حيث موارده المائية والبشرية ، وشساعة أراضيه الفلاحية والعمرانية. وربما كانت هذه الأخيرة سبب نقمتها التي تجر إليها كل الويلات والمتاعب المتمثلة في هذا التخلف السياسي والتصحر الثقافي اللذان جعلا مدينة تاوريرت بكل مكوناتها أشبه بقنديل لا يضيء وحمار لا يمشي ،وبالتالي كتابا لا يقرأ والأحرى غير واضح المعنى ولا مفهوم المحتوى .كمدينة مشلولة الأطراف، مهيضة الجناح ،لم تعد بنيتها التحتية الهشة تستحمل هذه الكثافة السكانية التي تجاوزت المائة ألف نسمة ،تتكدس في أحياء متهالكة تفتقر إلى ابسط شروط التمدن والتحضر.لاشك في أنها تحتل الرتبة المتدنية على سلم رقي كل مدن الجهة .
كيفما كانت الأسباب والمسببات ،سيبقى السياسي والثقافي على طرفي نقيض مهما كانت المبررات، فالسياسي يسعى الى تسييس الثقافي، والثقافي يسعى بدوره الى تثقيف السياسي وكلاهما يقفان على جانبي قفص الاتهام في نظر الرأي العام . كما يبقى هذا الركود والجمود شبهتهما والتهمة الموجهة إليهما سببا في تحول هذه المدينة الى حال لم تشهد نظيره منذ عشرات السنين ،والى حدود كتابة هذه السطور في جميع المجالات الداعية إلى تحريك الأنشطة بداخلها. انه السؤال الذي يتردد على كل لسان فيما هي الدواعي إلى هذا الفشل الكلوي الذي أصاب هذه المدينة.
فهل يكون هذا الهدوء الذي يسبق عاصفة الانتخابات التي لم يعد يفصلنا عنها سوى أشهر قليلة ،أم هو شلل دائم قد يجعلها عاجزة عن الحركة إلى الأبد، محكوم عليها بالموت قبل انقضاء الأجل ،هذا مما لاشك فيه مادام عمل الحكومة والأحزاب السياسية التي تنشغل فيها هذه الأيام بحملة تحسيس للمواطنين على التسجيل في اللوائح الانتخابية ،وكلتاهما ترمي بذلك إلى أهداف معينة ومنفصلة ومتباينة إلى حد يجعل ما يهم الأولى سوى تلميع وجه الديمقراطية بطلاءات غير منسجمة ،بإضفائها بعض المساحيق التي تريد بها إخفاء الندب والنتوءات المشوهة .في حين لا يهم الثانية سوى كسب أصوات إضافية لمستضعفين ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا ،لتجعل من ظهورهم معابر إلى بر الأمان ، ومن رقابهم مطايا ومرقاة إلى المعالي التي تمكنهم من الإطلال على ضحايا الجهل والأمية والاستمتاع بمصارعة الأشقياء للموت.
فهاهي ذي أحزابنا الوطنية تسعى على مستوى هذه المدينة أو على مستوى كل المدن الأخرى إلى استقطاب أشباه الأعيان، والاعتماد على أصحاب المال الحرام وتشدد في نفس الوقت على استبعاد كل الفعاليات الثقافية، ودفع كل الطاقات الاجتماعية والفكرية عن مشهدها .لكون شن لا يوافق طبقة .في هذه الحالة هل يمكن لكل ذي نظر ثاقب وعقل سليم ،أن يرى في أفق هذه المدينة وفي أفاق كل الوطن ما يلوح بمستقبل واعد ؟ في اعتقادي كلا ، مادامت السياسة الحزبية في وطننا تعمل على إقصاء الطاقات ،وإبعاد الفعاليات عن مشهدها ، وباتت الزعامة في شرعها وشريعتها حكرا عليها ،والرئاسة قدسية الموت دونها، والحزب ملكا عائليا ينتقل بالوراثة وليس ثم من ينتزعه منها إلا بقوة مماثلة . قد تكون تلك هي الديمقراطية التي تنشدها الأحزاب السياسية في وطننا .
فهل يرى العارفون أن هذه الأحزاب فعلا تعمل على تأطير المواطنين ثقافيا وسياسيا وفكريا واجتماعيا، ؟ وتحرص حقا على تقديم النخب إلى معركة الانتخابات لتفرز لنا مجالس في مستوى الأوطان التي تقف في نهاية خواتم المعرفة ، على استعداد للقفز إلى عوالم الابتكار والخلق والإبداع .وهل يجهل العارفون بالأمور السياسية أن المناهج البدائية في كل المجالات السياسية البالية في زمن الرقمية المطلة على العولمة أصبحت لاغيه .
وهل يفهم العارفون بالأمور السياسية والثقافية أيضا ،ان الجهوية المتقدمة التي سيراهن عليها وطننا أصبحت تفرض عليها أشياء لامناص من استحضار الكفاءات المهنية والقدرات العلمية والطاقات الفكرية والمعرفية في مستوى المنافسة البينية والوطنية والدولية .ويؤمن كل من يمشون في هذا الموكب بأنه لم يعد بينهم مكان للمنظرين والمتكلمين ، ولا للخطباء السياسيين والديماغوجيين الحزبيين ،إلا أن يأتي هؤلاء ببرهانهم إن كانوا صادقين .
تحركات حزبية من هنا إلى هناك ،ولقاءات سياسية هنا وهناك ،وحفلات شاي ومآدب عشائية تقام على شرف المدعوين والمناضلين والمتعاطفين، واجتماعات ليلية سرية أو علانية تنعقد من اجل خلق لجن استقطابية شبابية نسائية ورجالية استعدادا لحملة انتخابية قد تفرز في النهاية للحكومة نسبة مشاركة عالية، تلميعا لوجه ديمقراطية مشوه. و توفر للأحزاب السياسية اصواتا بنسب إضافية ،من اجل تكريس الأوضاع السائدة حتى يبقى السيد سيدا، والخادم خادما، والعبد عبدا. فهل يمكن بهذا الأسلوب أن ندعم التنمية لنحظى بمكانتنا اللائقة في مجالس الجهة .
ترى إلى متى يظل هذا المواطن يرقص على إيقاعات الأزمان الغابرة ، ويصطلي على جمر القبلية الذي تحول إلى رماد بارد ،ويتطلع إلى أفاق بعيدة يحول دونها السراب ،ويحيى بآمال تقف دونها السنين الطوال ،وكأن عمر الإنسان في هذا الوطن لا يخضع لأحكام الزمن ،ولا يعد بالشهور والأعوام. مواطنون بعضهم مع الأسف مازالت تنطلي عليهم الحيل، ومازالوا يلدغون من الجحر عشرات المرات دون أن يأبهوا بالخطر الذي يتهدد استقرار أجيالهم. ترى متى تستيقظ هذه الأجيال من سباتها العميق لتحاسب كل مسئول عن نهبه لسنين عمرها، قبل محاسبته على نهب ثرواتها. وتسائل عن حصيلة أعمالها بعد خمس سنوات وعشر ومنذ خمسين سنة الماضية ،التي تعتبر ضائعة لا تحسب من عمر أجيال منهم من قضى نحبه وانتهى، ومنهم من ينتظر دون أمل يلوح في أفق يبعث على ارتياح الضمائر واطمئنان الأنفس .
ترى متى تعي هذه الأجيال أن مواكبتها لركب التحضر، ومسايرتها لموكب العولمة أصبح عليها فرضا مفروضا أحبت ذلك أم كرهت. كما أصبح تخلفها عيبا وعجزها عارا رضيت بذلك أم رفضت . ناسية أنها ستعز ذات يوم على تخلفها أو تهان بتقدمها . متناسية أنها ستحرق يومئذ كل ما تملك من شموعها من اجل البحث عن طاقاتها وفعالياتها وقدراتها التي طوي نشرها النسيان بين طيات الأزمان الغابرة ، ونشر جمعها الإهمال في الكهوف المظلمة .