بقلم : طاقي محمد
ظل الإطار المعطل عبد الرحمان يبحث عن عمل مناسب، رغم ظروف العمل غير المتوازنة بالقطاع الخاص.. فالعمل داخل شركة خاصة يعني رضوخه التام لسلطة “الباطرون” والقبول بأجره الزهيد، لمجرد اختلاف الرأي معه فأنت مطرود خارجها بدون سابق إنذار.. وفي مؤسسة تعليمية خاصة، تشتغل وفق قواعد وقوانين مالك المؤسسة وليس وفق قوانين وزارة التعليم.. في عالم الخواص أنت تعمل لمصلحة المالك لجني الأموال وإن كانت مخالفة لمبادئك.. أنت فيه قطعة غيار تغير متى اقتضت ضرورة التبديل حتى تكون مواكبة لسياسة الربح. لا حق لك في المطالبة بالزيادة أو تحسين ظروف الاشتغال أو الشكوى من شيء، وأدنى وشاية من رفقاء عملك حقيقة كانت أو زوراً تصبح في حكم المطلقة. عبد الرحمان قام بمحاولات حثيثة للاشتغال وكسب قوت يومه، تارة “فراشا” يفترش سلعاً بسيطة بالأسواق لتبدأ لعبة القط والفأر بينه وبين البوليس.. ذات مرة وقع في قبضة الشرطي “خْلافة” الذي لا يرحم، أخذ منه سلعته التي كان يسترزق منها، فهو عدو الفراشة والباعة والخضّارة. أصيب هذا الشرطي في آخر حياته بمرض العصر “السرطان”. اتصل قبيل موته يطلب الصفح من عائلة “زكارة” المعروفة ببيع الخضراوات في الجوطية.. فكان ردهم عليه أن لا مسامحة لك ولقاؤنا يوم الحساب. تارة أخرى اشتغل عبد الرحمان نادلا في مطعم دجاج مشوي من السابعة صباحا إلى الحادية عشر ليلا. كما عمل مستخدما بالحانوت وبالمقهى وحارسا ليلياً لمرأب السيارات، باع أشياء كثيرة منها الماء البارد والفول الطازج وأكياس البلاستيك.. كل شيء يسمح ببيعه باعه أو حاول بيعه. كان رأسمال عبد الرحمان الترقيع والتأقلم والمكابدة والاستمرارية رغم الإذلال والتسلط اللذان يسممان الأجواء في هذا البلد الغريب، بلد مليء بالتناقضات حتى إشعار آخر. حين تلقى عبد الرحمان إصابة في رِّجله اليمنى بعصا قوى التدخل السريع “السيمي” أمام أركان البرلمان وتبعتها ركلة عنيفة على مؤخرته ثم تلتها كلمات سباب فاحشة في حق أمه، نهض فاراً من ركل الأحذية المخزنية.. وتشنف سمعه بكلمات ” تحرك أولد ال..بة”، ” تمشى الله ينعل ال..مل ديال بوك “، “ايحرق دين مك الكلب”.. شتائم من كل اتجاه. في تلك الليلة أثناء تضميده للكدمات الزرقاء على جسمه وإعادة تأهيل نفسيته، تسرب خبر بجريدة إلكترونية مفاده أن ابنكيران وقع في وقت متأخر على توظيف سبعة عشر معطلا صحراويا. كيف لا يفعلها؟ وابنكيران الذي وعد فأخلف وحدث فكذب وعاهد فخان. فهو يتعامل مع ملف المعطلين باستخفاف، يشعر بجنون العظمة. هو صنيعة الداخلية بامتياز، واستُخْدم لتدجين الحركة الإسلامية بدهاء. تأكد عبد الرحمان أنه مجرد مستخدم في حكومة المخزن، ستنتهي صلاحيته بانتهاء مهمته.. كان مادة مخدرة نومت جسم وحش كاد بتململه قاب قوسين إلى ثورة مغربية.. جاء في الوقت المناسب بشروط فرضها الحراك وسيخرج مذلولا بطريقة المخزن. هو لم يجرؤ على رجال الأموال والأعمال ولن يهدد الكبار. الآن فقط بدأ رئيسا للحكومة يستعرض منصبه على الشعب البسيط. والجرأة في عدم إتمام الاتفاقات مع المعطلين.. جبروته وطغيانه على المسكين والمقهور والضعيف والكادح والعامل والفقير. هذه نصف الحقيقة وبقية الحقيقة عند وزير الداخلية الأسبق ادريس البصري التي ماتت معه. الطغيان أن تفعل ما تريد في حق من لا يملكون القدرة على الانتقام، لا سلاح ولا قوة ولا ضغط لديهم سوى حسبهم الله ونعم الوكيل.. وأن تلبي غرورك كما تحمي جبنك أمام أضعف مسؤول أو رئيسة قسم أخبار بالقناة الثانية. حينما قرر أن يمارس صلاحيات دستور 2011، عفا عن المفسدين ومهربي الأموال، وقرر عقاب الباحثين عن العمل.. فهو يثأر لخذلانه في دهاليز الدولة العميقة تحت سطوة من يصنعون القرار على حقيقته. الشعب المقهور والمعطل البائس والموظف المترهل هم الفئة المناسبة والمتنفس الوحيد لإبراز أنه يملك زمام الأمور وصاحب السلطة التي جاءت بها صناديق الاقتراع ونفخت فيها الرياح حتى غدا رئيسا للحكومة وموظفا ساميا لمنصب مالي، وصفة لتمرير سياستهم المتعفنة. بعبارة أخرى هو رئيس حكومة بلا حكم. عليه أن يشكر حركة 20 فبراير التي كسرت الجليد، فلها فضل كبير أن جعلت منه رئيسا بلا روح، وزعيما شكليا بلا مضمون. ما يهمه هو الحكومة لا الحكم، الأجوبة بتهكم لا الأداء، البهرجة لا الإنجاز، الجدال لا الأعمال، التهليل لا التنفيذ، الاسترزاق لا الإصلاح. إن ما يحير عبد الرحمان صبر المغاربة على قرارات ابنكيران. كيف استطاع بسط قرارات مجحفة في أقل من ثلاثة سنوات، بضمير غائب على مواطنين في غيبوبة. فالقرارات لا علاقة لها بالعواطف الإنسانية. ربما لإنقاذ المؤسسات المفلسة ليعيد لها الحياة والفاعلية. ربما للسلطة سطوتها التي تجعلك تبدل جلدك الناعم إلى جلد خشن، من رجل دعوة إلى رجل دولة، من لبس عباءة إلى لبس ربطة عنق، من لحية كثيفة إلى وجه أملس.. صار يلتقط الصور مع أردوغان وأوباما.. يتركها ذكرى على خيبة إفلاس معسكر الظاهرة الإخوانية. فالسياسة في جميع قواميس العالم نشاط متزن، لها نزعة واقعية ترضخ لبواعث الحدث. إلا في قاموس ابنكيران فهي شكل من أشكال العبث. أفق مسدود مع عنجهية ابنكيران، حار عبد الرحمان وطول النفس بدأ يقصر. في الانسحاب من معركة الشارع استسلام مذل. في الانتظار صعوبة قلة الحيلة والظروف الاجتماعية غير مشجعة. العودة للبيت بيد خاوية خيبة كبيرة. أضحى عبد الرحمان أسوأ حالاً من ذي قبل. وفي نظره ابنكيران أسوأ خلق الله لأنه قاطع أرزاق، فرب قاطع أعناق أفضل منه. فإذا كان الإنسان ذئبا لأخيه الإنسان في نظر “هوبس”، فعند عبد الرحمان ابنكيران مجرد وحش كاشر يستأسد على المعطلين. يعيش عبد الرحمان الآن توهاناً مميتاً، في درب مظلم، بحاجز شائك.. كابوس في عز اليقظة. ينظر موقفه المخزي لا هو بالحي ولا بالميت لكنه لا يزال يتنفس. ليته لم يحصل على شهادة الماستر، ولم يدخل الجامعة أساساً. ليته خبر التجارة أو الصنعة لعل ذلك يغنيه، فالجهالة غدت أرحم من العطالة.