بقلم : نورالدين زاوش
حينما اطلعتُ على تصريح الريسوني بجريدة المساء، بتاريخ فاتح نونبر الجاري، وهو يؤكد أن استقالة وزراء العدالة والتنمية من أهون الأمور عليهم، تذكرت الموقف الرهيب في ذلك اليوم المشهود، الذي التحق فيه كُبراء حزب العدالة والتنمية وَسَادَتُه بدار السيد عبد الغني المرحاني وهم مُدَجَّجين بكبش أملح أقرن من أجل “رمي العار عليه”، علّ ذلك يُلِين فؤاده، ويُجْبر بخاطره، ويقوي إيمانه، فيتنحى عن وكالة اللائحة البرلمانية بدائرة البرنوصي سيدي مومن، والتي استحقها عن جدارة واستحقاق، بعدما تحصل في الانتخابات الداخلية الشفافة على 180 صوتا من أصل 207، أي بنسبة 82% من مجموع الأصوات المعبر عنها.
كنا نتفهم هذا الموقف الشاذ لقياديي الحزب، لو أن طلب التنازل من السيد “المرحاني” كان من أجل مقاصد شرعية، أو مبادئ أخلاقية، أو من أجل مصلحة عليا واضحة الملامح، وبينة المعالم، أما أن يُطلب منه التنازل لصالح ولاية رابعة للسيد “محمد يتيم”، الذي خلَّفت ولاياته البرلمانية الثلاث المتعاقبة تذمرا واسعا، واستياء عاما، حتى إنه لم يحصل في انتخابات هيأة الترشيح ببني ملال سوى على صوت واحد لا شريك له، فهذا ما لا يستسيغه عاقل، ولا يبرره شريف.
الطامة الكبرى، أن ثلاث هيئات من مؤسسات الحزب قد هددت باستقالتها إذا لم تتراجع الأمانة العامة عن هذا القرار الجائر في حق الشاب الواعد “المرحاني”، وهي الكتابة المحلية، وقطاع الشبيبة المحلي، ومستشاري الحزب بالجماعة، بالإضافة إلى المئات من المناضلين، حتى بلغ مجمل الاستقالات الجماعية، بعد تعنت الأمانة العامة واستبدادها، إلى 170 مستقيلا من مناضلي الحزب وكوادره وشبيبته وقيادييه، هذا دون أن يرف للسيد “يتيم” جفن، ودون أن تهب على قلبه نسمة تأنيب ضمير، فتذكره أن الكرسي زائل، والعمر فان، والحصانة منقضية، ولا يبق إلا وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
تمنيتُ في هذه اللحظة المباركة، لو أنني كنتُ حاضرا بجانب ذلك الكبش الأملح الأقرن، فآخذ صورة تذكارية أرسلها للسيد الريسوني بمناسبة نشر هذا المقال “الحاقد”، بعدما أكتب على ظهرها: ” إذا كان برلمانيو الحزب من نفس طينة السيد “يتيم”، فلا تراهن، أيها السيد الكريم، على أن يجد وزراء الحزب أمر الاستقالة بالأمر الهين”.
إن قصة “يتيم” ليست قصة يتيمة، أو حادثة معزولة، أو طفرة تُشَكِّل استثناء لا يقاس عليه، بل هي قاعدة مُطَّردة، تتكرر فصولها في أكثر من دائرة، وتطفو بوادرها على السطح، كلما تعلق الأمر بكرسي قيادي مرموق من “ذوي الحظوة والسابقة إلى الله”.
نفس القصة تكررت مع السيد الفاضل “خاليد مصدق”، حينما فرضت عليه الأمانة العامة التنازل عن حقه المشروع، في تزعم اللائحة البرلمانية عن دائرته بالبيضاء، لصالح السيد مصطفى الرميد، وزير العدل والحريات لاحقا، الأمر نفسه تكرر مع الدكتور الفاضل “حسن أنجار” عن دائرة الناظور، الذي حظي بشبه إجماع أعضاء الحزب في هيأة الترشيح، مما أغاظ هيأة “الكبش الأملح”، وغير هؤلاء كثير.
للأسف الشديد، إن الناس يروننا في الحزب الإسلامي وكأننا على قلب رجل واحد، ونحن، داخل الصف، نتصارع، ونتجادل، وأحيانا “نتقاتل” حتى الموت، مثلما يقع في أي هيأة حزبية أو ربما بشكل أفظع، من أجل عرض من الدنيا قليل، الفرق الوحيد بيننا وبين هذه الهيآت، هو أن قياديينا الموجودين في المقدمة، هم من يطعنون من يوجد في الخلف، وليس العكس.
لستُ أدري كيف هانت على السيد الريسوني نفسه وهو يتحدث عن زهد وزراء العدالة والتنمية في الاستوزار، وكأنه يقر حقيقة علمية لا يأتيها الباطل من بين يديه أو من خلفه، وهو الأعلم بشدة حرص هؤلاء على مقعد البرلمان المتواضع، ولاية تلو أخرى، فكيف ب”عرش” الوزير الواسع الرحب، والذي قد لا يُتاح إلا مرة واحدة في العمر؟
لقد نشر الشيخ الريسوني مقالا بجريدة التجديد بتاريخ 21/10/2011 تحت عنوان: “شهوة الخلود والترشح اللامحدود”، جاء فيه:
” الغريب أننا نجحنا في اعتماد فكرة حصر تولي المسؤوليات في ولايتين فقط، في حركة التوحيد والإصلاح، ثم اعتُمدت الفكرة بحزب العدالة والتنمية. فلما جئنا إلى مجال هو أحوج بكثير إلى إقرار هذا النهج، اصطدمت الفكرة بالتأويلات والتبريرات والتهرب والتسويف!!، وأما الحقيقة الواضحة فهي أن دواعي التحديد والحصر للمناصب ذات الإغراء والجاذبية والتنافسية أقوى وأوجب. لكن أنصار البقاء والخلود كانوا هم الغالبين.”.
لم يكن قياديونا على دراية تامة بما تفعله السلطة في النفوس، ولم يكونوا على علم مسبق بما تفعله الملايين في أرصدة البنوك، فما إن أرجأوا تحديد النيابة البرلمانية من ولايتين إلا ثلاث ولايات، حتى تراجعوا عن ذلك في متمّ الولاية الثالثة، وها هم اليوم بصدد ولاية رابعة، وإذا لم تقم الساعة قبل ذلك، سوف نشهد، لا محالة، ولاية خامسة وسادسة وعاشرة، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب.
هذا ما أكده الريسوني في مقاله المشهود “شهوة الخلود” حينما قال:
” ولكن الناس غير البسطاء، بحكم تشبعهم بطموحات زائدة وثقافة زائفة، يستطيعون إقناع أنفسهم أو على الأصح خداع أنفسهم، بأن “البقاء” مفيد وضروري، وهو مقتضى الحكمة والمصلحة.. هكذا أقنعَ عدد من أصدقائي بحزب العدالة والتنمية أنفسهم وبعضهم ..، مع أن هؤلاء الأصدقاء جادلوني سنة 2005، وطلبوا مني تأجيل دعوتي لتحديد النيابة البرلمانية في ولايتين، بأننا في البداية ومحتاجون إلى بقاء أصحاب التجربة، ووعدوني بتبني الفكرة واعتمادها في الانتخابات المقبلة. ثم مرت “المقبلة”، وها هي أخرى حلَّت، وما زالت فكرة البقاء والدوام بلا حدود ولا قيود. “
لا فض فوك أيها الشيخ الفاضل، فنحن بالفعل، بصدد حالة فريدة من شهوة الخلود، والأدهى من ذلك، أننا من أجل تحقيق هذه النزوة صرنا نؤلف الروايات الفاسدة، ونَتَحَجّج بالمبررات الواهية، ونختلق الأعذار المضحكة المُبكية، لكن ذلك كله لا يضر، مادام أحباؤنا يصدقوننا تمام التصديق، ويثقون بنا وثوق الأعمى بمرشده، أما ما سواهم، فهم مجرد “شر” غير مستطير، يمكننا بقليل مكر تجنبه أو تخطيه، يكفي أن نَصِف نفوسهم برذيلة الغيرة والحسد، أو نلصق بهم تهمة الحقد الأعمى، أو جريمة العداء للمشروع الإسلامي، ونكون بذلك قد خرجنا من هذه الورطة بكل احترافية ودهاء.
لقد استغرب الشيخ الريسوني، من وضاعة أولئك الذين نزلوا إلى ساحة الفعل السياسي لمحاربة آفة السلطة في النفوس، لكنهم نزلوا قبل أن يتم تعقيمهم من الداء، فأصابهم جراء هذا الاستعجال الوباء، الشيء الذي اضطرهم لإبداع هيأة سرية في غاية الحساسية والنجاعة، تُدعى هيأة “الكبش الأملح الأقرن”، بعدما تبين قصور هيآت الاقتراح والترشيح والتزكية في تحقيق مقاصد الشريعة العصماء.
أشكر الشيخ الفاضل الدكتور الريسوني، على أنه رد بكل موضوعية وعلمية ونزاهة، على الريسوني السياسي المخضرم، القائل بزهد وزراء العدالة والتنمية في الاستوزار، وللقارئ الكريم واسع النظر.