بقلم : نورالدين زاوش
حتى وإن كان السيد بنكيران الأخيرَ زمانُه ممن ارتدوا ربطة العنق، من بين السياسيين في هذا البلد الحبيب، إلا أنه أتى بما لم تستطعه الأوائل، هذا ما استشعرتُه حينما تقدمت الشاعرة بشرى بَرَّجال إلى منصة البرلمان، لتطلق العنان لشيطان شعرها، وتتغزل بكل فصاحة في رئيس حكومتنا وفي ربطة عنقه، وتصفها بمُحْكمة الإتقان ومتناسقة الألوان، مضيفة بأن هذا التناسق هو سر الأناقة والرصانة، قبل أن تطالبه بمزيد منهما، لتنهي قصيدتها الراقية بتبليغه تحيتها لحرمه المصون بكونها سببا في ذلك، حينها انشرح صدر السيد بنكيران، وعلت الابتسامة العريضة شفتيه، إلا أنه أبدى انزعاجه، بعض الشيء، من الهرج والمرج الذي أحدثه البرلمانيون، فعكر عليه صفو تلك اللحظة الرومانسية التي لم يشهدها البرلمان من قبل.
سأل سائل: أيُعقل أن تكون ربطة عنق موضوع جدل بين السياسيين والمفكرين؟ أيُعقل أن تكون مادة دسمة يُسكب الحِبر في فهمها وتقصيها، وتُجنَّد المقالات والكتابات في مناقشتها وتحليلها؟ أليس من المفيد أن نناقش الجوهر والمضمون لا أن نهتم بالشكل والقشور؟ فأجبناه: حينما تصبح الجن والعفاريت والتماسيح موضوع نقاشات صاخبة في مؤسسات الدولة وفي البرلمان والإعلام، ويتحول رئيس حكومتنا إلى ولي صالح يوزع على المعطلين البركات والدعوات، ويسأل اللّطيف في المجلس الحكومي من المخفيات والمُدْلَهمات، ويتحول البرلمان إلى مكان تسرد فيه الروايات، وتُقرأ فيه قصائد الشعر والغزل وكأنه سوق عكاظ، نستشعر أن موضوع ربطة العنق ليس بذخا فكريا، أو رفاهية ثقافية أو سياسية، بل هو أعظم من ذلك وأجل.
ما من شيء في السيد بنكيران إلا وجدير بالمتابعة، لسانُه، عقلُه، شخصيته، منطقة، وحتى حذاءه أو ربطة عنقه، فكل جزئية مرتبطة بشكله أو جوهره قد تكون حاسمة في التقدم الاقتصادي، مثلما رأينا في مقال: “عفوية السيد بنكيران”، أو تكون مصيرية في ضبط مؤشر التنمية البشرية، أو في إرساء نوع العلاقات الخارجية، أو تحديد طبيعة الفعل السياسي أو الأخلاقي في المجتمع، من حيث إنه ثاني أقوى رجل في السلطة، وزعيم أكبر حزب سياسي في هذا البلد الحبيب.
حينما سُئِلت ابنة السيد بنكران عن سر “نجاح” أبيها، أجابت بأن الفضل في ذلك بعد الله تعالى يرجع إلى والدتها، وهو كلام في غاية الحساسية والخطورة، ولا يمكن أن نمر عليه صما وعميانا، دون أن نستخلص عبره أو نتأمل مدلولاتِه.
قد تكون السيدة نبيلة بنكيران من وراء أناقة زوجها مثلما قالت الشاعرة برجال، لكن الذي أوصل السيد بنكيران إلى رئاسة الحكومة، بدون أدنى شك، هو المشروع الإسلامي الذي ظل يبشر به الناس عقودا طويلة، والحركة الإسلامية التي ظهرت للشعب في ثوب المخلِّص الأمين، حتى اطمأن لها الشعب أيما اطمئنان، ووثق بها كما يثق الصبي فيمن يَعُوله، فآزرها بكل ما أوتي من قوة وحيلة، ودعمها بكل غال ونفيس، حتى اعتلت منصة التتويج عن جدارة واستحقاق، ولا فضل بعد الله تعالى فيما وصل إليه بنكيران، إلا لكتاب الله الذي رفعته أيادي أصحابه في كل آن وحين، وسنة نبيه التي طمع الشعب أن تحيى في هذا البلد الحبيب من جديد.
لستُ أدري أي نوع من الأشخاص نعتكف على تربيتها في حركاتنا الإسلامية، وأي نموذج فكري وأخلاقي نصنعه في مختبراتنا الدينية ومصانعنا الثقافية، حتى تمر هذه الكائنات على مثل هذه التصريحات مرور الكرام، دون أن تُحْدث في رؤوسها الصغيرة زلازل مهولة، أو تفجر في نفوسها براكين جامحة.
من البلاهة أن نردد في كل مناسبة بأن وراء كل عظيم امرأة، فأحيانا تكون عظمة الرجال من ورائها عظمة الإسلام، ورونق تشريعاته، وجمالية دعوته، ورحمة مبادئه ومقاصده، هذا ما جعل الشعب يراهن على مشروع بنكيران، قبل أن يراهن على بنكيران نفسه، ويؤمن بدعوته قبل أن يؤمن بشخصه، لكن الذي أسسنا من أجله الحركة الإسلامية تلاشى في لحظةِ نزوةٍ عابرة، وسقط في أول امتحان ونحن في أوج الإحساس بنشوة النصر الزائفة.
ليس من الموضوعية أن أتخذ من تصريحات ابنة رئيس الحكومة شماعة أعلق عليها مآخذي وانتقاداتي له، أو أجعل منها ذريعة لأصب جم غضبي عليه، خصوصا وأنها لا تمثل حركته الدعوية، وليس لها مسؤولية سياسية في حزبه، وبالتالي، فهي لا تتوفر على أدنى صفة رسمية قد تعطي الغطاء القانوني والأخلاقي من أجل انتقاده أو الطعن في توجهاته، لكن هذا لا يعفيه من تحمل المسؤولية الأبوية، التي من المفروض أن تساهم في نشر أفكار المشروع الإسلامي داخل الأسرة قبل المجتمع، وعلى رأسها دور الحركة الإسلامية في نشر تعاليم الإسلام، وفضلها الكبير، وقدرها العظيم في بلوغ الريادة السياسية.
حينما يخرج ابن بنكيران في تظاهرات 20 فبراير، مبررا ذلك بعجز أبيه في إقناعه بعدم الخروج، وتخرج علينا ابنته بتصريح تسفه فيه المشروع الإسلامي، عن قصد أو عن غير قصد، لتقول إن الفضل فيما وصل إليه أبوها يرجع لوالدتها، وكأن الحركة الإسلامية مجرد وسيط عجوز استنفد أغراضه، أو متطفل دخيل أنهى مبررات وجوده، أو مجرد ديكور وجب تأثيث المشهد السياسي به لا غير، حق لنا أن نتعجب من الفرق الشاسع، والهوة العميقة، بين ما ننشره في المجتمع، وما ننشره في عائلاتنا الصغيرة وأُسَرنا الضيقة.
كم كان يحز في نفسي، يوم كنت أشتغل في حركة التوحيد والإصلاح، وأنا أجد بعض القياديين الدعويين يحثون الطلبة للنضال في الساحة الجامعية، ويحفزونهم للاشتغال في العمل النقابي، بيد أنهم يحضون أبناءهم على اعتزال هذه الأنشطة، المُهْدرة للجهد والمُضَيعة للوقت، والانكباب على التحصيل العلمي، بذريعة أن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، حتى صار كثير من طلبتنا الغيورين، من جراء هذه السلوكيات، يشعرون باليأس والتذمر والإحباط.
لولا أن العنقَ عنقُ السيد بنكيران لما اكتست ربطة العنق أهمية تذكر، فقد كان رئيس حكومتنا الموقرة يكره ارتداءها حتى الموت، لكنه حينما تعوَّد عليها أَلِفها وألفته، واطمأن إليها واطمأنت إليه، حتى صرّح مؤخرا بأنه لم يعد يطيق فراقها، فبشرى لنا بهذا التطور المفاجئ، وهنيئا لنا بداهيتنا الفذ، والمتألق فينا على الدوام، والذي تمكن، في بضعة أشهر، أن يغير كثيرا من القواعد الأخلاقية والمنطقية، كما استطاع أن يُبَدِّل عددا من المفاهيم السياسية ويعوضها بمفاهيم جديدة، مثلما أبدل مفهوم كرسي السلطة، بمفهوم ربطة العنق، وهو مفهوم أكثر دقة، وأفصح تعبيرا، وأشد تأثيرا، ليتبين أخيرا، أن الموضوع الذي عزمنا التطرق إليه هذا اليوم، ليس موضوعا هامشيا، بل هو صلب الموضوع.