الخضير قدوري :
ترى هل كانت هذه المدينة باطلا فبنيت على باطل ؟ وكتب عليها لتغرق في هذه العشوائية المجنونة وتسبح في هذه الفوضى المقننة ، ام ترى قد غشي أبصار أهلها غيم الطمع ، وانبهروا بأي شعاع حتى ذهب بنور أعينهم الجشع ، فلم يبق لهم فيها مثقال ذرة من الغيرة عليها ومن حب لهذا الوطن. وخلت صدورهم من النخوة وقلوبهم من الورع ،ذلك ما ساتطرق اليه ضمن هذا التشخيص الموجع لمدينة بئيسة
تاوريرت موقع في الشياع
هذه المدينة التي تمتد أطرافها الى الجهات الأربع ،لتتربع على ارض مقسمة في الشياع بين إدارة الأملاك المخزنية المسيطرة على التلال وقممها والوديان وأعماقها من جهة ، وإدارة المياه والغابات المستحوذة على الجبال وسفوحها والأنهار وضفافها من جهة ثانية ،وبين أراضي الجموع او الجماعية الصالحة للرعي والزراعة التي تنضوي بدورها تحت نفوذ إدارة السلطة المحلية من جهة ثالثة ،ثم أراضي عمرانية المتاخمة للمدينة التي يستولي عليها شبيهو إقطاع باسم الجماعة السلالية من جهة رابعة .
تاوريرت قرية نموذجية
مدينة مكتوبها ان تضل منذ نشأتها جسما ينخره الدود ،وتقطع جلده الارضة اربا اربا ،يعيث فيها المفسدون شرقا وغربا .الى ان صارت اليوم عبارة عن هيكل عظمي لم يبق منه سوى النتن واثر الدم ، فان كان أكلة اللحوم قد اشبعوا من لحمها جوعتهم ،وشاربو الدماء قد أطفئوا من دمائها لهيب عطشهم ،إلا انه مازال هناك رهط يتغذى على البقايا والفتات
قد يسال سائل كيف كانت هذه المدينة باطلا وقد بنيت على باطل، يدبر شانها بفوضى مقننة ويدار امرها بعشوائية مجنونة ،ذلك ما يجيب عليه واقعها وتتحدث به ذاكرتها وتنطوي عليه صفحات تاريخها الذي أبى إلا ان يفتح دفتيه لينفتح على مجتمع حكم عليه بان يكون جسدا واحدا اذا تالم عضو فيه لم تتداع له الأعضاء الاخرى لا بالسهر ولا بالحمى . هذا المجتمع التعس الذي يحيا تحت سقوف بنايات في مدينة قائمة على أراض جماعية ومخزنية وسلالية ،بقي أصل تمليك كل بقعة فيها لمن يبني سكنه عليها غير محسوم فيه الى حدود الساعة، مقامه فيها كمقام الغريب في كل ارض اقام سكنه على الثلوج قلما تشرق الشمس فتنهدم البنايا وقد يعزم الغريب على الخروج ،ومازال معظم هذه البنايات في كل الاحياء الى يومنا هذا يصطلح عليها “تزينة ” وما يسمى في العرف الإداري “حق الفوقية ” لم تتم تسوية وضعية البقعة التي شيدت عليها هذه البنايات وتقوم عليها هذه العمارات مهما تعالت وتعددت طبقاتها وغالت وارتفع ثمنها فانها تبقى مجرد ” تزينة” على بقعة لم تسو وضعيتها منذ سنوات الستينات لانعدام ضوابط إدارية و قوانين عمرانية ولا تصاميم هيكلية للأحياء العشوائية ،التي تمتد على أطراف مدينة مقسمة يومئذ بين مركز حضاري يتوسع فيه نمو ديموغرافي غير متحكم فيه نتيجة نزوح سكان القرى المجاورة بفعل الجفاف والسنين العجاف ، وبين مركز قروي حيث كانت كل بقعة آنذاك تقام عليها خيمة او زريبة او حظيرة تحاط بسور من حجر وطين قلما يتجاوز علوه مترا واحدا ذلك يكفي لتصبح هذه البقعة بقدرة قادر ملكية فوضوية يقام حولها حي عشوائي في محيط حضاري لا يختلف في حاله عن حال مدشر قروي يخضع لسلطة إدارة الجماعة القروية والسلطة المحلية
تاوريرت مظلومة بترقيتها الى مستوى عمالة
مهما كانت هذه البنايات الحمراء المنتشرة على ضواحيها فإنها لم تكن تنضوي لمدارها الحضاري او تخضع لقانونها الإداري كليا الى حين اصبح الواقع يفرض نفسه وأضحت هذه المداشر بعد سنين أحياء غير مهيكلة مشمولة ضمن تصميم تهيئة المدينة حبا او كرها رغم ذلك لم يكن فيه للساكن من حق باستثناء ” حق الفوقية” وهو حق لا يضمن الاستقرار او التمليك مهما كانت البناية فهي لا تختلف في حالها عن حال خيمة او زريبة مهدد صاحبها بالرحيل في كل لحظة ،الأمر الذي جعل هيكلة هذه المداشر القروية بعد تحويلها الى أحياء شعبية داخلة في مدار حضاري لاغراض انتخابية، وقد اصبح من الصعب تقويم تصاميمها وإدماج ساكنتها ضمن مجتمع متمدن في مدينة متحضرة ، وبات أمرها مستعصيا الى حد ما على الإصلاح معرقلا لأعمال تجهيز بنيتها التحتية بما يلزمها من المرافق الضرورية كالماء والكهرباء والصرف الصحي وتعبيد الطرق وإحداث والساحات الخضراء بما يتوافق مع جمالية أية مدينة متحضرة ويتنافى تماما وحال مدينتنا التي تضيع فيها العناوين وتفتقر الى كثير من مواصفات التمدن أدناها ترقيم المنازل وتسمية الأزقة وبالأحرى ترصيفها وتعبيدها وتوسيع شبكة الماء الصالح للشرب والصرف الصحي ونشر الامن في شوارعها واحيائها وتشجيع الاستثمار لتوفير الشغل لشبابها وتجهيز مستشفاها بما يلزمه من اجل التغطية الصحية لساكنتها ،كل ذلك يجعل وضعها ابعد ما تكون من أوضاع المدن المتحضرة وأقرب ما تكون الى قرية نموذجية قد ينعكس حالها على معظم ساكنتها التي تتنافى أحوالها وسلوكياتها مع أحوال وسلوكات المجتمعات المتمدنة حتى باتت هذه المدينة رغم ترقيتها اداريا الى مستوى عمالة ظلما فهي قلما تتوفر على أدنى مواصفات التمدن الاجتماعي والتحضر الديموغرافي والتطور العمراني كل ذلك يجعل واقعها دون مستوى قرية نموذجية بالاحرى
تاوريرت مدينة الفوضى والعشوائية بامتياز
وما زاد الطين بلة لنموها الديموغرافي المتزايد نتيجة لما ذكر من انحدار لسكان القرى المجاورة المكونة لهذه الأحياء الشعبية في أطراف المدينة ، تدفق نازحين جدد من مدن مغربية مختلفة ، ممن يرغبون في تحسين أوضاعهم المعيشية بممارستهم التهريب والمتاجرة في المواد المهربة التي كانت تشتهر بها المدينة وخاصة الملابس المستعملة حيث كان بعض الظرفاء يطلقون عليها اسم “خوردستان” نسبة الى الخردة المستوردة عن طريق التهريب من مدينة مليلية ، مما جعل الطلب على الأرض يفوق العرض ويسمح لمهربي الخردة بان يتحولوا الى مضاربين عقاريين يمارسون نهب الأرض في غياب القوانين وغفلة السلطات وفساد الإدارات وقد ساعد ذلك الى حد كبير في تقنين الفوضى عن قصد او بتواطؤ اطراف متحكمة في الوضع ، فأعطى تبريرا لهذه المضاربات وتعزيزا لجانب المضاربين ،ما دعا الى ظهور تجزئات سرية بالهكتارات والآلاف الأمتار في أطراف المدينة يتم تمليكها وتوزيعها بناء على ما تقوم به السلطة من أعمال هدم وتحرير محاضر وتقديم المخالفين الى العدالة بحجة البناء دون ترخيص وتحسب ذلك زجرا وردعا وكبحا للفوضى المتفشية ، ومن حيث لا تدري ان كل الأحكام الصادرة في هذا الشأن مهما كانت ستكون مبررا للمحكومين في تمليك أرض مهملة والحصول على رخص لبنائها وإقرارا في نفس الوقت بحقهم الضمني في التمليك بناء على نسخ من المحاضر او الاحكام التي قد تتضمن عقوبة سجنية أحيانا موقوفة التنفيذ وغرامة متواضعة قد لا تتجاوز قيمتها بعض عشرات الدراهم كمقابل لثمن وقيمة ارض بالملايين وتقدر مساحتها بالهكتارات وبآلاف ومئات الأمتار المربعة ثم يتم امتلاكها وتجزئتها وبيعها عن طريق فوضى مقننة وعشوائية مبررة ، الأمر الذي جعل الإدارة تسعى الى ابتكار وخلق تشريعات اجتهادية وضوابط عرفية للقضاء على هذه الآفة ومحاصرة الظاهرة وإيقاف المضاربات والعمل للتضييق على المضاربين الذين يملكون من أساليب التحدي لتطورات السلطة وتشريعاتها العفوية بما يقابلها من الممارسات المتطورة للنصب والاحتيال جعلت معظمهم يختفون من على الصورة لمحاولة طمس أثار ما اجتنوه من أموال طائلة وتملصهم من المتابعات القانونية والضريبية ، غير ان ذلك لم يمنعهم من مواكبة التطور الإداري والتقنين العمراني بما يتناسب لاختراقها عندما ظهر خلف فاسد لسلف مفسد بمظهر مخالف يمارس التحايل على تشريعات عشوائية مجنونة ، تغفلها الإدارة او تتغافلها لأسباب متعددة قد تكون مصلحية او سياسية او أمنية او غير ذلك .اذكر على سبيل المثال هذا الكم من الجمعيات المتاسسة في هذه المدينة ، منها السكنية على الخصوص والتي تهدف أساسا الى الحصول على بقع أرضية لإحداث تجزئات سكنية او صناعية او تجارية ،وأنواع أخرى من هذه الجمعيات يرمي معظمها الى الحصول على دعم بالملايين من لدن السلطات من اجل تمويل أنشطة ثقافية او انجاز مشاريع وهمية او تنظيم مهرجانات فنية او مباريات رياضية قد تتبناها بعض هذه الجمعيات في غياب المحاسبة القانونية و المراقبة الإدارية والمتابعة القضائية ، هو نموذج اخر من نماذج الفوضى المقننة والعشوائية المجنونة التي تتسببان في هدر الأموال العمومية بالطرق الاحتيالية وباسم الشراكة والتنمية وتشجيع المبادرات ، ترى ماذا بعد تشخيص الخلل وكشف الحقائق وتعرية الواقع سؤال تبقى بعده عشرات علامة استفهام عن كيفية إصلاح الخلل ومن القادر على ذلك وهو نفسه غير مجرد من الخلل او خال من ذميم الخلال،من المستبعد جدا إيجاد حاسم يقبض على حسام ليقطع رؤوسا أينعت وقد آن أوان قطافها وشجاع يشد على قاطع يتقرب الى الله بضرب أعناق تطاولت وتعالت .الى حدود كتابة هذه السطور يبدو المطلوب ابعد ما يكون والإصلاح مستبعد كيفما يكون والسؤال يستعصى عليه الرد بما يكون