المختار أعويدي:

الشائعة خبر مدسوس كليـا أو جزئيــا و ينتقــل شفهيـا أو عبر وسائل الإعلام دون أن يرافقـه أي دليـل أو برهان و يقصد به تحطيم المعنويات. محمد عثمان الخشت إذا أردت أن تقتـل إنسانا، فلا تطلـق عليه رصاصة، بـل أطلق عليه إشاعة. الأمير شكيب أرسلان أيما رجل أشاع على رجل مسلم كلمة و هو منها بريء، يرى أن يشينـه بها في الدنيا، كان حقـا على الله تعالى أن يرميه بها في النار. حديث شريف

إن الإشاعة من أقبح وأشرس وأفتك أدوات وأسلحة الحرب النفسية، لأنها الأقدر من بين جميع وسائلها على تحطيم معنويات الخصوم، وإذلالهم، وتدمير مناعتهم وتوازنهم النفسي، وتخريب طمأنينتهم واستقرارهم الداخلي. إنها إعصار عاتي جبار، يخلف الخراب والمآسي والدمار. لأن لها قدرة هائلة عجيبة على الإنتشار والسريان بين الناس، تماماً كما تنتشر النار في الهشيم، لا تحدها حدود، ولا يحجزها حاجز. وأيضا على اكتساح أكثر الحصون مناعة وتحصيناً. والتغلغل إلى أعماق النفوس، مُزلزلة سكينتها، وعابثة باستقرارها وطمأنينتها. ومخلفة الهزائم النفسية والمعنوية، وبالتالي الآلام والأحزان. ذلك، لأن “العقول ليس عليها جدران حماية”، كما يقول تيموثلي توماس Timothly Thomas.
وإن العلاقة بين الحرب النفسية والإشاعة علاقة جدلية متينة، حيث من الصعوبة بمكان التمييز أحيانا بين حدود المصطلحين، وخطوط التلاقي والتقاطع بينهما، والفواصل بين العام والخاص، والجزء والكل. حتى ليعتقد أحيانا أن الإشاعة هي الحرب النفسية والحرب النفسية هي الإشاعة.
إن خصوصيات الإشاعة، وفعاليتها في سرعة الإنتشار، وقدرتها الكبيرة على التأثير في عقول الناس وعواطفهم والعبث بها. وتشكيل الرأي العام وصياغته، هي ما جعلها من أهم الوسائل التي تعتمدها وتستعملها الحرب النفسية، في تفكيك جبهات الخصوم. وزرع البلبلة والشك والقلق والإضطراب في صفوفها. وكسر الروح المعنوية، وإلحاق الهزائم النفسية الكاسحة والأضرار الجسيمة بها، وبالتالي تحقيق الأهداف المتوخاة.
إن هذه القدرة التدميرية الهائلة التي للإشاعة، هي ما جعلها “تشكل، كما يقول عبد المجيد السفياني، جزءا من التكتيك الحربي العام، والقائم على التشكيك والتيئيس وتخريب المعنويات. وزعزعة تماسك الصف، والتمهيد للهزائم الميدانية بهزائم نفسية.. إنها كآلة إعلامية، سواء في الحروب القديمة أو المعاصرة، هي ثابت بنيوي في منطق “الحرب الخدعة” وفي التكتيك الحربي العام.”
” فالهزيمة، كما يشرح محمد سعيد رسلان، هي في الحقيقة حالة عقلية ونفسية. والمعركة التي يُهزم فيها الإنسان، هي المعركة التي يَعترف لنفسه فيها بالهزيمة. وبذلك يتحول إصراره على المقاومة إلى الخضوع واليأس والتسليم بالهزيمة، من خلال إطلاق الإشاعة، التي تقضي على روحه المعنوية، حتى يصل لدرجة يعتقد أن الحرب أنكى من الهزيمة”. وإن هذه القدرة الهائلة التي للإشاعة على التأثير في النفوس، هي التي قادت الأمير شكيب أرسلان إلى الخلاصة التالية: “إذا أردْتَ أن تقتل إنساناً فلا تُطلق عليه رصاصة، بل أطلِقْ عليه إشاعة!”.
إنه بالنظر إلى هذه الخطورة التي تمثلها الإشاعة، فقد كانت دائماً مصدر قلق وإزعاج للدول منذ القدم. فقد “كان أباطرة الرومان، كما ذكر كامل عويضة، يُعانون وباء الإشاعة، إلى حد أنهم عيّنوا “حُراس إشاعات” Deiatores . وكانت مُهمتهم تنحصر في مخالطة الأهالي، ونقل ما يسمعونه إلى القصر الإمبراطوري”. وذلك بهدف التعاطي معها، وتحجيم أثرها وتأثيرها، أو حتى توظيفها واستثمارها.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية، استحدثت الدولة ما يُعرف بعيادات الإشاعة، Rumor Clincs حيث يجري تحليلها لمعرفة مصدرها ونوعها، وأسلوب الرد عليها.
وإن هذا يعني أن الإشاعة تمثل أداة جهنمية في يد مستخدميها، أفرادا كانوا، أو جماعات، أو مؤسسات أو دولا. يُمَكنهم توظيفها من الإيقاع بخصومهم وأعدائهم، وإلحاق أفدح الهزائم المعنوية والمادية بهم، من دون جهد كبير أو عناء.
فما هي الإشاعة إذن؟ وما هي خصائصها ووسائلها وأهدافها؟ وكيف لها كل هذه القدرة العجيبة على الإنتشار والسريان بين الناس؟، و ما السر في قدرتها الجبارة على التدمير والتحطيم وإلحاق الهزام بالخصوم؟!
وردَ في لسان العرب تحت مادة شيَعَ :
شيَّعْتُ فلاناً، اتَّبَعْتُهُ، وشايَعَهُ: تابَعَهُ و قَوَّاهُ. ويُقال: فُلانٌ يُشَيِّعُهُ عَلى ذلك أيْ يُقَوّيهِ، ومِنْهُ تَشْييعُ النارِ بإلقاءِ الحَطبِ عَليْها يُقوّيها.
وشيَّعَ النارَ في الحَطَبِ : أضْرَمَها.
وشيَّعَ الرَّجُلَ بِالنارِ: أحْرَقَهُ.
شيَّعْتُ النارَ : إذا ألْقيْتَ عَليها حَطباً تُذكيها بِهِ.
وشاعَ الشيْبُ شيْعاً وشِياعاً وشَيَعاناً وشُيوعاً وشَيْعُوعَةً ومَشيعاً : ظَهَرَ وتَفرَّقَ.
وشاعَ الخبر في الناس يَشيعُ شيْعاً وشَيَعاناً ومَشاعاً وشيْعوعَةً فهو شائِعٌ : انْتَشرَ وافْترَقَ وذاعَ وظهَرَ. وأشاعَهُ هُوَ وأشاعَ ذِكرَ الشّيْءِ : أطارَهُ وأظْهَرَهُ. وقوْلهمْ : هذا خَبَرٌ شائِعٌ وقد شاعَ في الناس، معناه قد اتَّصَل بِكل أحَدٍ فاسْتوى عِلمُ النّاس بهِ، ولم يكن علمهُ عند بعضهم دون بعض. والشّاعَةُ: الأخبار المُنتشرة. وفي الحديث : “أيُّما رَجُلٍ أشاعَ عَلى رَجُلٍ عَوْرَةً لِيُشينَهُ بِها..” أيْ أظهر عليه ما يُعيبُهُ.
وأشَعْتُ السِّرَّ وشِعْتُ بِهِ إذا أذعْت بِهِ. ورجل مِشْياعٌ : أيْ مِذياعٌ لا يَكْتُمُ سِرّاً.
وَوَرد في المعجم الوسيط تحت مادة شاعَ :
الشيءُ شاعَ شُيوعاً، وشيَعاناً، ومَشاعاً : ظَهَرَ وانْتَشَرَ. ويقال : شاعَ بالشَّيْءِ : أذاعَهُ.
شاعَكَ الخَيْرُ : صَحِبَكَ وغَمَرَكَ.
أشاعَ الشَّيْءَ وبِهِ : أظْهَرَهُ ونَشَرَهُ.
وتَشَيَّعَ الشَّيْبُ شَعَرَهُ : انْتَشَرَ فيهِ.
الإشاعَةُ : الخبَرُ يَنْتَشِرُ غَيْر مُتَثَبَّتٍ مِنْهُ.
الشائِعُ : المُنْتَشِرُ.
الشائِعَةُ : الخَبَرُ يَنْتَشِرُ ولا تَثَبُّتَ فيهِ.
إن القاسم المشترك بين جميع هذه المعاني اللغوية، هو التقوية والإنتشار والتكاثر والسريان، والخروج إلى العلنية والذيوع، والتداول الواسع والشيوع. وقد يتم ذلك، عبر أشكال من وسائل التخاطب اللفظي أو الكتابي أو الرمزي. وهي أهم خصائص الإشاعة ومواصفاتها التي تميزها.
غير أن للإشاعة بالإضافة إلى هذا المعنى اللغوي العام، معنى ودلالة اصطلاحية خاصة، تزداد ضيقاً وانحساراً ودقة. لكنها تتباين من باحث لآخر، ومن مؤسسة لأخرى، بحسب اختلاف الحقول المعرفية ومجالات البحث، (علم النفس ، علم الإجتماع .الميدان المالي ، العسكري، الإقتصادي..)
فالأستاذ أحمد نوفل يعرف الإشاعة بأنها: ” الترويج لخبر مُختلق لا أساس له من الواقع، أو تعمُّد المبالغة أو التهويل أو التشويه في سرد خبر فيه جانب ضئيل من الحقيقة، وذلك بهدف التأثير النفسي على الرأي العام.. تحقيقا لأهداف معينة مقصودة.”
ويقول محمد عثمان الخشت: أن “الشائعة خبر مدسوسٌ كلياً أو جزئياً، وينتقل شفهياً أو عبر وسائل الإعلام، دون أن يرافقه أي دليل أو برهان، ويقصد به تحطيم المعنويات.” ويضيف، بأنها “رواية مصطنعة عن شخص، أو جماعة، أو دولة، يتم تداولها شفهيا أو إعلاميا، وهي مطروحة لكي يصدقها الجمهور، دون أن تتضمن مصادرها، ودون أن تقدم دلائل مؤكدة على كونها واقعية.. ودوافعها إما أن تكون نفسية أو سياسية أو اجتماعية أواقتصادية، وأهدافها غالباً سلبية..”.
ويعرفها محمود أبو زيد بأنها: ” رواية تتناقلها الأفواه دون التركيز على مصدر يؤكد صحتها، أو أنها اختلاقٌ لقضية أو خبر ليس له أساس من الواقع. أو هي مجرد التحريف بالزيادة والنقصان، في سرد خبر يحتوي على جزء ضئيل من الحقيقة”.
وعرفتها موسوعة علم النفس للدكتور عبد القادر طه: بأنها، “عبارة عن خبر أو قصة أو حدث، يتناقله الناس بدون تمحيص أو تحقق من صحته، وغالبا ما يكون مبالغاً فيه بالتهويل غير الصحيح”.
ويُعرفها اللواء جمال محفوظ بأنها: “أخبار مشكوك في صحتها، ويتعذر التحقق من أصلها، وتتعلق بموضوعات لها أهمية لدى الجهة الموجهة إليها، ويؤدي تصديقهم أو نشرهم لها، إلى إضعاف روحهم المعنوية”. وقد “تستخدم الإشاعة بين الأفراد، وخاصة في تشويه السمعة أو المضايقة”.
ويعرفها مبارك عبد الله المفلح بأنها، “أخبار مجهولة المصدر غالبا، يقوم عليها طرف ما، تعتمد تزييف الحقائق وتشويه الواقع، وتتسم هذه الأخبار بالأهمية والغموض، وتهدف إلى التأثير على الروح المعنوية والبلبلة والقلق، وزرع بذور الشك في صفوف الخصوم والمناوئين”.
والإشاعة من وجهة نظر القانون، هي “خبر يُشاع ويُذاع، فهي حادثة إعلامية، أي أنها معنى يجري الإخبار به، بأي صورة من صور الإخبار التي هي القول، والكتابة ، والإشارة. فالإخبار القوْلي يعني التلفظ بالكلام المفهوم المسموع وله صور.. والإخبار الكتابي ويعني التحرير المقروء مباشرة.. والإخبار بالإشارة، ويعني الرمز الذي تُظهره الحركة العضوية التي هي دون الكلام، فيشمل ذلك حركات اليد والعينين ونحو ذلك”.
ويعرف شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي الإشاعة بأنها: “التأثير السلبي في النفوس، والعمل على نشر الإضطراب وعدم الثقة في قلوب الأفراد والجماعات.. ينشرها الأعداء ضد من يعادونهم لإضعافهم، أو لإنزال الهزيمة بهم، أو لإزالة نعمة منحها الله تعالى لهم. أو لغير ذلك من الأسباب التي يراها كل خصم أنها تساعده على الإنتصار على خصمه”.
ويعرف الشيخ د.محمد سعيد رسلان الإشاعات بأنها، “عبارة عن أقوال أو أخبار أو أحاديث، يختلقها بعض الناس لأغراض خبيثة، ويتناقلها الناس بحسن نية، دون التثبت من صحتها، ودون التحقق من صدقها”.
وعرفها الباحثان جوردون ألبورت Allport. W.G وليو بوستمان Leo Postman على أنها، “كل قضية أو عبارة مطروحة للتصديق، وهي تُتداول من فرد إلى آخر بالكلمة الشفهية في العادة، دون أن تستند إلى دلائل مؤكدة على صدقها، وتحتوي كل شائعة دائماً على شيء ضئيل من الحقيقة”.
وتعرفها مجلة الفكر العسكري بأنها: “بث خبر من مصدر ما في ظرف معين، ولهدف ما، يبغيه المصدر دون علم الآخرين، أو هي الأحاديث والأقوال والأخبار التي يتناقلها الناس، والقصص التي يرْوونها، دون التحقق من صحتها، أو التثبت من صدقها”.
وبذلك فالإشاعة، كما يقول العميد مهدي علي دومان، تمثل “ضغطاً اجتماعياً مجهول المصدر، يُحيطه الغموض والإبهام، وتحظى من قطاعات عريضة أو أفراد عديدين بالإهتمام.. ويتداول الناس الإشاعة لا بهدف نقل المعلومات، بل بهدف التحريض والإثارة وبلبلة الأفكار”.
وتلتقي جل هذه التعاريف والدلالات الإصطلاحية، وتكاد تُجمع على أن الإشاعة خبر مُختلق مُفتعل مُلفق، يُراد له الإنتشار والسريان، لا يستند لا إلى مصدر معروف مؤكد، ولا إلى أصل معلوم مدقق، ولا إلى دليل أو برهان على صحته وصدقه. أي أنه مجردٌ عن أي قيمة يقينية، وعارٍ من الصحة والحقيقة.
وهي، أي الإشاعة، تختلف عن الخبر، كما يقول نور الدين الزاهي، “بفعالية رمزية كبرى، يمكن قياس مداها بمدى ودرجات تأثيرها على الفرد والجماعة، وكذا على الآراء والمواقف والأحداث.” ولهذا “فالحمولة الدلالية والوظيفية للإشاعة، كما يبرز عبد المجيد السفياني، أقوى من الخبر الذي قد يكون أحاديا ولا يتعدى مجرد كونه إخبارا بحدث أو غرض ما. لذلك فمجاله التداولي محدود، بخلاف الإشاعة فهي إخبار يغطي ويستهدف فضاءا مكانيا ومجاليا تداوليا على أوسع نطاق، لسبب أساسي، وهو أنه يدخل في استراتيجية التحريض والتعبئة وحشد التأييد، وكذا الإقناع من أجل رهانات محددة.”
إن الخبر، كما يقول نور الدين الزاهي، “يخضع لإكراهات عدة، بدءاً من هويته وخصيصاته ووصولا إلى تبعاته ومآلاته، إنه نقل في اللغة وعبرها لحدث واقع في الحاضر أو الماضي. لغة قد تكون بصرية أو مكتوبة أو مسموعة أو جامعة لهاته العناصر، ميزتها أنها تنحو ما أمكن نحو الوصول بالتأويل إلى درجة الصفر.
فللخبر ناقل أو واصف أو مؤلف، مثلما له مصدر، قد يكون المعاينة أو المعايشة والمشاهدة، أو مصدر ما متوسط (وثيقة، شخص مادي أو معنوي، موثوق به) وبسبب ذلك يتحمل ناقل الخبر أو صانعه مسؤولية كاملة عن طبيعة الخبر وحيثياته، مثلما يتحمل تبعات ذلك على جميع المستويات الأخلاقية والمهنية والقانونية..”
بينما تتحرر الإشاعة من هذه القيود والضوابط والإكراهات، “وتتمتع بالحرية، كما يوضح الزاهي، من حيث طبيعتها أو كيفيات ولادتها وقنوات استمراريتها.. وهو ما يجعل أنماط إنتاجها وتناسلها وتوالدها واتساع فضاءات شيوعها واستهلاكها أكثر يسرا.. إنها ظاهرة لغوية تواصلية ترتكز على مَحْكي وليس على حدث”. ذلك لأنها في النهاية “نقيض الخبر”، كما يقول محمد سكري. بل قد تكون “كل إشاعة خبرا، لكن ليس كل خبر إشاعة”، كما يقول عبد المجيد السفياني.
فالإشاعة إذن، كما يقول د.ساعد العرابي الحارثي، رواية قصْدِية، “تُحكى من أجل أن يصدقها مَن يسمعها، وليس مُهمّاً أن تكون صادقة”. ولا عجب، “فالشائعات هي، في الغالب، ما كان على خلاف الحقيقة، فتكون غالبا رديفاً للكذب”، كما يقول د.علي حسن الشرفي. وهي تقدَّم للتصديق، لأجل بلوغ واضعها أو واضعيها إلى تحقيق أهداف تتراوح، كما يقول عبد المجيد السفياني، “بين الدعم والإنتصار والحفاظ على الشيء وتقويته، أو تبخيسه والنيل منه والإجهاز عليه”. وفي الغالب تحقيق أهداف، سلبية خبيثة، تستهدف زعزعة وتخريب نفسية ومعنويات الطرف أو الأطراف المستهدَفين. لأنها كما يختصر د. علي حسن، “الخبر المثير المُتعمّد، المُستهدِف نتائج ضارة”.
ويلتقي المعنى اللغوي العام للإشاعة، مع دلالتها الإصطلاحية الخاصة، في خاصية الذيوع والإنتشار والسريان والتزايد والتداول. ولعمري أن هذا هو مكمن خطورة الإشاعة، وبشاعتها وقدرتها على الفتك والتدمير. “فلِلإشاعة، كما يذكر د.ساعد العرابي، دائما مَن يرويها، وينشرها، ويسعى بها بين الناس، لِتعُمَّ وتنتشر وتملأ الآفاق، وتزدحم بها كل المجالس، وتنطق بها كل الألسن. ومُروج الإشاعة.. يهمه أن تنتشر وأن تَعُمَّ وتشغل أذهان العباد.. وهو يقوم بذلك العمل لاعتبارات شخصية نفسية تتعلق به شخصياً، مثل أن يُطلق إشاعة ضارة تتعلق بشخصٍ يُعاديه، أو يُنافسه، أو يتضرر هو منه.. ودوافع وحوافز أخرى يراها مبررة له، للقيام بذلك العمل غير المبرر بمقاييس العقل والعدل”.
إن خلف كل إشاعة مُخططون ومستفيدون، ناقلون ومروجون. تحرك بعضهم الحسابات والمنافع والمصالح، وتؤجج بعضهم الكراهية والأحقاد والضغائن. وهو ما يجعل الإشاعة تتباين وتختلف تبعا لذلك. فبعضها يكتسي طابع العدائية والبذاءة والخبث، وبعضها طابع النقد والتجريح، وبعضها طابع النكتة والسخرية، وبعضها طابع الترهيب والترعيب..إلخ.
وهكذا تتخذ الإشاعات أشكالاً وأنواعاً وأصنافاً، سواء بحسب طبيعة أهداف واضعيها ومطلقيها، والغايات التي يرومون تحقيقها. أو بحسب سرعة سريانها وانتشارها. أو طبيعة شخصيات مطلقيها وناشريها ومروّجيها.
ولهذا يمكن تمييز أصناف وأنواع من الإشاعات:
1ـ بناء على شكل وسرعة انتشارها وسريانها:
أي حسب المعيار الزمني، وقد استخدم في الأصل من قِبل عالم الإجتماع الروسي بايسو Bysow. ويمكن، بناء عليه، تمييز أصناف من الإشاعات من قبيل:
• الإشاعة الحابية أو الزاحفة: و”تنمو ببطء ويتسع انتشارها في جو من السرية، حتى لا يكاد أن يسمع بها كل فرد.. والإشاعات العدائية هي عادة من هذا الصنف..”، كما يشرح محمد كامل عويضة.
وتعتمد في انتشارها على السرية، لأنه بالإضافة إلى كونها عدائية، فإنها تكون في الغالب فاقعة اللون، فاضحة بذيئة. ولذلك تعتمد في انتقالها على حملات الهمس (الإفتراءات الهامسة). فتنتشر بذلك انتشار بقعة الزيت، وقد تتحول إلى همهمات، وثرثرات، لتصل إلى ذروة الهياج والعدائية، فتصبح لغوا فاضحاً عنيفا، وحرباً ضروساً شعواء، تأتي على الأخضر واليابس، فتحرق وتحطم وتدمر.
• الإشاعة الإندفاعية: “وتنتشر انتشار اللهب، لأنها تتعلق بوَعيدٍ أو بوعْدٍ مباشر.. ولذلك فهي تجتاح المجتمع في وقت مذهل في القِصر، وتنطوي على إشاعات العنف أو الحوادث أو النصر.. وقد تؤدّي إلى إثارة استجابات سريعة وعنيفة”، كما يشرح محمد كامل عويضة. ولهذا النوع من الإشاعات قدرة هائلة على صياغة وتشكيل الرأي العام.
• الإشاعة الغاطسة: وهي إشاعات تنتشر لفترة معينة، ثم تختفي و”تغطس” لتطفو وتظهر من جديد في وقت لاحق، حين تسمح الظروف.
2ـ بناء على أهدافها و دوافعها وأغراضها من قبيل :
• إشاعة جس النبض الجماهيري: وترمي إلى قياس درجة الحالة العامة للجماهير ونبض الشارع. إنها بذلك، كما يقول نور الدين الزاهي، “محكي متخيل، مهمته جس نبض الحدث القادم، ومعه جس نبض التطلعات وأفق الإنتظارات.”. وهي تستخدم في الغالب من طرف الأنظمة السياسية، لجس نبض الجماهير بشأن قرارات تكون بصدد تنفيذها.
• إشاعة التبرير: وتستهدف تبرير وضع قائم.
• الإشاعة الوردية الحالمة أو المتفائلة أو إشاعة الأمل : تنـشر التفاؤل والطمأنينة، وتشيع الأماني، لأجل التنفيس عن الرغبات والحاجات.
• إشاعة الرعب أو حرب الأعصاب: ترتكز على الترهيب والترعيب، وبث القلق والخوف في النفوس، وزيادة حدة التوتر من أمر يُحتمل حدوثه.
• الإشاعة العدائية أو إشاعة الكراهية : تستهدف إلحاق الأذى بالأشخاص بسبب الكراهية والعداء.
• إشاعة الحقد: تستهدف تفكيك الأواصر، وخلخلة الروابط وقطعها، وإثارة العداء والحقد بين الأشخاص أو الطوائف..
• الإشاعة الهدامة أو إشاعة دق الأسافين: هي إشاعة مُنبئة بالشر، تستهدف الإطاحة بمن تُوَجه ضده، وإلحاق أذى كبير به.
• إشاعة الخيانة: تروج خلال أوقات الحروب، وتستهدف التشكيك في صدق ولاءِ القادة والزعماء.
• الإشاعة العنصرية: وتستهدف التعبير عن موقف عدائي عنصري من جماعة أو طائفة أو عرق..
• الإشاعة الإقتصادية ، السياسية ، المالية، …إلخ
3ـ حسب مطلقها و ناشرها (أي مصدرها) و يمكن تمييز:
• إشاعة الإسقاط : وتستهدف تحقيق رغبات يعجز الفرد عن تحقيقها في الواقع، أي تستهدف التنفيس عن مخزونات اللاوعي. وترجمة ما يختمر في لاشعوره إلى إشاعة.
• إشاعة الكراهية أو الحقد: وهي حصيلة وترجمة لمشاعر الكراهية من طرف مطلق الإشاعة، تجاه الشخص أو الطرف المستهدَف.
• إشاعة الرغبة: يستهدف مطلقها إثبات الذات، عبر الإدعاء مثلاً بالإنفراد بالتوفر على معلومات معينة.
• إشاعة الإنتقام أو تصفية حساب: يستهدف واضعها ومروجها، الإنتقام من خصم أو ندٍّ أو منافس (زميل ، خصم سياسي…)
• إشاعة التبخيس : يرمي مروجها إلى التقليل من القيمة المعنوية أو الرمزية أو الإجتماعية أو الإقتصادية أو الثقافية.. لشخص ذاتي أو معنوي منافس له.
• إشاعة التزكية والتعزيز: يستهدف مروجها دعم وتزكية موقف أو رأي أو طرف معين.
وتتفاوت مضامين الإشاعات، بحسب تباين واختلاف الأهداف المرجو تحقيقها، وطبيعة الأشخاص المستهدفين. وقد تتراوح بين المضامين المُفتحشة، ومضامين التآمر والخيانة، أوالترهيب والترعيب، أوالسخرية والنكتة.. عموماً كل المضامين التي تضمن في آن واحد، استمالة اهتمام جمهور المتلقين، وكذلك تحقيق الهدف أو الأهداف المتوخاة. من قبيل إلحاق ما يمكن إلحاقه من أذى وإساءة وأضرار بالطرف المستهدَف.
إن الإشاعة ليست أمرا عبثيا يُطلَق على عواهنه، بدون تفكير أو تخطيط أو تدبير. بل هي أمر مدروس مُخطط له بعناية. تحركه دوافع وأغراض وأهداف، يرمي المطلق والمروِّج تحقيقها وبلوغها. وهي ذاتها الأهداف التي يخضع لها إطلاق وانتشار وسريان الإشاعة.
“إن أية حاجة بشرية، يمكن أن تكون القوة الدافعة للإشاعة”، كما يقول محمد كامل عويضة. ولكن إذا كان إطلاق الإشاعة يخضع لعوامل متعددة ومتباينة، “فإن العوامل النفسية من أكثر الأسباب في انطلاق الإشاعة”، كما يؤكد د.ساعد العرابي الحارثي. لأنها ـ أي الإشاعة ـ في الغالب تكون ترجمة للرغبات النفسية الداخلية لمُطلقها، وتفريغاً وانعكاساً لبواطنه، وحاجاته الشعورية واللاشعورية الدفينة. وبالتالي، فهي تجسيد وتشخيص لجزء مهم من تركيبة شخصيته ومكبوتاته.
إن “الإشاعة إنما تستهدف عواطف الناس، سواء من ناحية جذبهم واستقطابهم إلى جهة ما، أو تنفيرهم وإبعادهم لجهة ما، أو لجذبهم إلى فكرة أو إبعادهم عنها، لتجميل صورة ما أو لتشويه سمعة بلد، أو جيش، أو زعيم، أو فنان، أو حتى شخص عادي. فالغرض في النهاية نفسي تدميري عاطفي”، كما يوضح د.ساعد العرابي.
وقد اختصر العميد مهدي علي دومان، أهداف الإشاعة كسلاح فتاك من أسلحة الحرب النفسية فيما يلي:
“ـ تدمير القوى المعنوية وتفتيتها، وبث الشقاق والعداء وعدم الثقة، والإرهاب وبث الرعب والذعر في النفوس، وافتعال واصطناع الكوارث والأزمات والمشكلات.
ـ استخدام الإشاعة كستارة دخان في سبيل إخفاء الحقيقة، وللحط من شأن مصادر الأخبار الصحيحة.
ـ استخدامها كطعم تتصيد به المعلومات والأنباء التي يتكتم عليها الآخر.
ـ تحطيم وتفتيت المعنويات..”
إن الدوافع النفسية العاطفية، هي من أكثر دوافع إطلاق الإشاعة وترويجها. ويمكن أن تتمظهر في العداء تجاه البلد أو الجماعة أو الشخص المستهدَف بالإشاعة. وهذا العداء يكون ناتجا عن عدة عوامل، في مجملها نفسية (عداء، كراهية، حقد، حسد.. إلخ)
ولا عجب، “فالحقد يسند أقاصيص الإتهام والإفتراء”، كما يقول محمد كامل عويضة. فمطلق ومروج الإشاعة، عوض أن يعبر عن كراهيته للطرف المستهدف بشكل صريح مباشر، فهو يطلق العنان لتوتراته الإنفعالية الداخلية، لترجمة كراهيته وعدائه، والتعبير عنهما بأساليب أخرى. أي أن الهجوم الذي لا يستطيع شنه أو تحقيقه بشكل مباشر على الخصم، يعمل على تحقيقه من خلال الهجوم بإشاعة. أي بأقاصيص العدائية الموجهة ضد هذا الطرف. وغالبا بالنوع الخبيث من الإشاعات، كجزء من حرب نفسية قبيحة، لأجل إلحاق بالغ الأذى المعنوي والنفسي بالطرف المستهدف.
“فدافع الحقد على المنافسين، أو الخصوم، أو أي أشكال الكراهية والحقد. مما يدفع إلى تحطيمهم، ولو باصطناع وترويج الإشاعات ضدهم.. أو تفسير سلوكهم تفسيراً يخدم غرض مختلق الإشاعة.. وقد يحاول الإنسان بالإشاعة إقناع الآخرين بعدالة موقفه من خصومه، وأن عداءه لهم منطقي”، كما يشرح العميد مهدي علي دومان.
وهكذا فإطلاق “الإشاعات، كما يقول محمد كامل عويضة، يُهدّئ التوترات الإنفعالية القائمة، بإتاحتها إفراغاً لفظياً يُحقق التفريج” عن مكبوتات وأمراض وأسقام الطرف المُطلق والمُروج للإشاعة.
ويمثل الإسقاط دافعاً نفسياً آخر، يمكن أن يكون سبباً في إطلاق الإشاعة وترويجها، “حيث يقوم مُردد الإشاعة بتكرارها، فيشعر بالراحة وتخفيف الضغوط النفسية أو الشعور بالذنب، حيث يُحاول إظهار ما يُعاني منه هو نفسه كحالة عامة، وليس كحالة فردية يمكن أن تسبب له الخجل والإحراج”، كما يوضح د.نايل محمود البكور.
ولذلك، فهو يبحث عن كبش أو أكباش فداء، لتفريغ ما يُضمره في نفسه، عله يحقق بذلك ارتياحه النفسي المرضي، ويُنفس عن مخزوناته الشاذة غير السوية.
“إن إلْقاءَ التُّهم على الغيْر، يُهوِّن في عيوننا ما نحن عليه من تقصير أو انحراف، وأحيانا تكون الإشاعة نوعاً من استرضاء النفس، وعدم القدرة على مواجهتها بالفشل.. ولذلك، فالإشاعة يطلقها المرء ليتنفس بها، ويُفرغ تلك التوترات”، كما يقول العميد مهدي علي دومان.
وقد يكون وراء إطلاق الإشاعات عوامل أخرى متعددة، تتنوع بتنوع أهداف مطلقيها ومروجيها، من قبيل التوقع (التنبؤ)، أو البحث عن معلومات حول موضوع غامض، أو تبرير واقع ما، أو اختبار أمرٍ ما، أو جذب انتباه إلى قضية أو أمر ما..
إن للإشاعة قدرة هائلة عجيبة على سرعة الإنتشار والسريان، ولها، كما يقول د. ساعد العرابي، “بَعْد أن تنطلق دروبٌ ومسالك ومسارات”، تمكنها من أن تصبح موضوعاً متداولاً على كل الألسن، ومادةً خصبة لكل المجالس، وعبارة مكرورة في كل أحاديث اللغو والثرثرة، ولغطاً مُجتراً في كل المقامات والمقالات.
ولعل من أكثر العوامل والشروط التي تجعل منها كذلك، وتمنحها قوة الذيوع والسريان والشيوع هذه، كما يشرح كامل عويضة، هو”أن موضوع الإشاعة ينبغي أن ينطوي على شيء من الأهمية بالنسبة للمتحدث وللمستمع.. وأن الوقائع ينبغي أن تتسم بشيء من الغموض.. وهذا الغموض يُمْكن أن ينشأ عن انعدام الأخبار أو اقتضابها، أو عن تضاربها، أوعدم الثقة بها.. فالأشخاص يدعمون رغباتهم بالإعتقاد، ويلجأون إلى التبرير والإسقاط، وينشرون الإشاعة الكاذبة. وذلك فحسب، تبعاً لغموض الموضوع وأهميته الخاصة..” ولهذا تنكمش الإشاعات عندما يصبح المجهول معلوما، أي عندما تزول أسباب الغموض. لكن مع ذلك، فبعض الإشاعات، كما يقول أحمد النابلسي، “تبدو كأنها لا تموت، وهي تصبح جزءا من البنية الإعتقادية للمجتمع، وانعكاسا لما يشغل بال الناس ولما يحلمون به”.
إن “الأهمية” و”الغموض” هما القانونان المتحكمان في سريان الإشاعة وتناقـلها وانتشارها، كما خلص إلى ذلك الباحثان جوردون ألبورت Allport.w.g وليو بوستمان Leo potsman، في أبحاثهما ودراستهما المنشورة في كتاب “علم نفس الإشاعة”. فقد توصلا إلى صياغة معادلة رياضية، تفسر وتيرة وقانون انتشار وسريان الإشاعة، مفادها: انتشار الإشاعة = موضوع مهم x غموض حول الموضوع. أي أن مستوى انتشار الإشاعة تساوي أهمية الموضوع المتصل بالإشاعة، مضروباً في مدى الغموض حوله. وبذلك فإمكانية انتشار الإشاعة وقوة سريانها، تساوي موضوعا مهما (أو أشخاصا مُهمّين)، مضروبا في غموض حول الحدث (أو الموضوع أو الأشخاص).
“إن “السعي وراء معنى”، يمكن وحده أن يُحقق شرط “الأهمية” الذي يكمن وراء انتشار الإشاعة.. والناس في سعيهم وراء معنى يستبطنون أشياء كثيرة”، كما يخلص كامل عويضة، أكثرها من نسج خيالاتهم، وإبداع أوهامهم واعتقاداتهم وأحيانا أحقادهم..
“فالشخص إن لم يملك المعلومات الكافية التي تُكوِّن صورة واضحة للأحداث، ولم يملك عناصر التفسير، فإنه يلجأ إلى خياله يستكمل صورة وملامح الواقع، ليقدم لنفسه ولغيره رواية كاملة.”على حد رأي مهدي دومان. حتى لو كانت وضعاً وتلفيقاً وهتكاً وافتراءا.
والغموض في الإشاعة، كما يوضح د. نايل محمود، “يخاطب جانباً مهماً لدى الإنسان، هو الرغبة في المعرفة وحب الإستطلاع، فنجد الإنسان يتبادل الحديث حول الإشاعة مع الآخرين، كي يتأكد من موقفهم تجاهها، وفيما إذا كانوا يصدقونها أو يرفضونها، مما يساعده في تحديد موقفه منها، فإما أن يصدقها أو يرفضها. ولكن نتيجة التداول والتكرار، والحديث غير الدقيق، وغير المدعوم بالأدلة الصادقة، غالبا ما تكون النتيجة هي الإقتناع بالإشاعة وتصديقها..”. ولذلك، ” فحيث لا يوجد غموض، لا يمكن أن تكون إشاعة”، كما يخلص كامل عويضة.
إن “الأهمية” و”الغموض” في الإشاعة، يُلهبان رغبة الناس وفضولهم، ويؤججان شهيتهم للمزيد من الأخبار والمعلومات حولها. وهو ما يُسهم في انتشارها، وكثرة الحديث واللغط حولها. وهكذا، فإن “الشيء الغامض وغير المفسَّر، يحظى بأهمية أكبر من التي يحظى بها الشيء الواضح المُفسَّر”، كما يوضح نتشه. ولا يمكن أن يُشبع أو يُطفىء هذا العطش، أو يُشفي غليل هذا الفضول، سوى أخبار مُختلقة زائفة أخرى، وربما افتراءات كاذبة واهية لا أساس لها من الصحة. ما يجعل الإشاعة الواحدة تحبل بأكاذيب وأقاويل وأباطيل أخرى، أي بإشاعات أخرى فرعية، تصب في مجرى الإشاعة الرئيسي. ولذلك يقول المثل الروسي: الإشاعة كرة ثلج تكبر كلما دحرجتها.
ولعل من أكثر الأوساط التي تفعل فيها الإشاعة فِعْلها العجيب، وأثرَها الغريب في السريان والإنتشار، هي الأوساط المتجانسة. كما هو الحال بالنسبة لبعض المهن، والأوساط، كالوسط العمالي أو الطلابي أو التعليمي على سبيل المثال، او بعض فضاءات العمل المحصور المشترك كظهر سفينة، أو مؤسسة تعليمية ..إلخ. لأنه “حيثما هناك جمهور وصِلة مشتركة، هناك إشاعة تدور بينهم”، كما يوضح د.ساعد العرابي،. ومردُّ ذلك، كما يشرح كامل عويضة، “أن الإشاعة تنطلق وتمضي في رحلتها في وسط اجتماعي متجانس، بفضل الدوافع القوية عند الأشخاص القائمين بنقلها.. ويتطلب التأثير القوي لهذه الدوافع أن تضطلع الإشاعة بدور تبرير هذه الدوافع، بمعنى أنها تفسر وتبرر، وتسبغ دلالة على الدافع الإنفعالي الدائم. وأحيانا ما تكون العلاقة بين الدافع والإشاعة من القوة، بحيث نستطيع أن نصف الإشاعة ببساطة، على أنها إسقاط لحالة ذاتية وانفعالية معاً..”. حالة يقوم فيها الأشخاص الذين يرفضون مواجهة أخطائهم وقصورهم وربما ضآلتهم، بتلمس أكباش فداءٍ، لإسقاط نزواتهم ونقائصهم وأمراضهم وعُقدهم عليهم بدون إشفاق. فيتخذون من الإشاعة وسيلة وأداة، لتحقيق مآربهم، والتنفيـس عن ضيقهم وأزماتهم وانفعالاتهم.
وبقدر ما تكون الكراهية عميقة بإزاء أحد الأفراد، من قِبَل أشخاص، أو خصوم معادين حاقدين ناقمين، تتسع جبهة الإشاعات التي تهاجم دوافعه، وحياته، وأسراره، ونواياه، وتـَمَيُّزه، ونجاحه.. فتبدأ بذلك آلة التحطيم والتشهير والتبخيس التي يشعلها هؤلاء، عملها الدؤوب بضراوة وبلا هوادة. وهو ما يضمن للإشاعة أقصى درجات الذيوع والإنتشار والشيوع. لأن الأخبار السيئة لها أجنحة، كما يقال.
وقد “يلعب التعزيز، كما يذهب د.نايل محمود، دوراً فاعلاً في انتشار الإشاعة، فقد يَشعر مُردِّدها بالأهمية كونُه مصدراً للمعلومات، وكون الآخرين يُصغون لما يُحدثهم به”. إنها بذلك، أي الإشاعة، كما يستنتج العميد مهدي علي دومان، “تُنفس عن المشاعر المكبوتة، ويشعر راويها بأنه رجل مُهم ومُتَّصل ببواطن الأمور”. دون أن يبالي بالعواقب والنتائج الكارثية، لرواياته الملفقة، وأباطيله المفتراة على الطرف أو الأطراف المستهدَفة.
وبالنظر، كما يوضح كامل عويضة، “إلى أن الإشاعة إنما تسري فحسب ما بين الأفراد متشابهي العقول، فحيث يكون المجتمع غير متجانس بدرجة مسرفة، وحيث تقلُّ الإتصالات بين جماعاته المندرجة، فإنه يكون من المحتمل أن تتجنب الإشاعة اجتياز الحواجز الإجتماعية، ومن ثم يضيق سريانها.”
وعموما فإن جراثيم الإشاعة، إنما هي أبداً حية نشيطة ضمن الكيان الإجتماعي.. لأنها تستقر في الأنسجة العميقة لهذا الكيان.. وهي أحيانا ما تتحرك حركة بطيئة وبصورة غير سامة، في شكل حملات همس، وتقوُّل، وادعاءٍ، وهمهماتٍ خافتة، غير صادعة أو مسموعة. هي أحيانا أخرى، تتفجر عنيفة في صورة حُمى تشتعل في أخطر صورها.. أو إشاعة ملتهبة حارقة. وكلما بلغ الهياج درجة عالية من الشدة، يأخذ في التزايد عدد الأفراد المندمجين في السلسلة، سلسلة الإنتشار والشيوع، والسريان والذيوع.
ولذلك، “فجانب كبير من التاريخ، كما يقول عويضة، إنما تحدد عن طريق استجابة الناس للتقوُّلات. كما أن الكثير من معتقدات الناس، إنما هي نتاج خرافات وأساطير مُمْعنة في القدم.” بل إن الأسطورة، كما يذهب د.فهمي النجار مذهباً بعيدا، هي “في حقيقتها ليست سوى شائعة خالدة، استطاعت أن تحيى على مرِّ العصور، لتصبح جزءاً لا يتجزأ من تراث الأمة.. فهي خالدة في أذهان الناس، لا تموت على مرّ الأزمان”. وهذا ما دفع توماس كارلايل إلى الذهاب إلى مدى أبعد، حين وصف التاريخ، “بأنه عملية تقطير للشائعات”.
وتلعب طبيعة المواضيع التي تثيرها الإشاعة وتروّجها، والتي هي في الأصل وفي غالب الأحيان، نتاجٌ صريح للخيال، دوراً أساسياً في انتشارها وشيوعها، أو ضمورها وخفوتها واضمحلالها.
فالإشاعات المفتحشة فاقعة اللون، وذات المواضيع المثيرة، كمواضيع الجنس، والفضائح، والعنف، والسياسة، والحياة الخاصة للناس.. تأخذ بلـُبِّ المروّجين والمتـلقين المتهافتين عليها. وذلك لِما تمثله من عنصر تشويق وجاذبية وإثارة، وربما لكونها أداة نكاية وشماتة، أو تنفيس وتفريج وإسقاط..
إن موضوعات الإفتراء هي في العادة واحدة، وأثرها وتأثيرها على جمهور المتلقين يكون بنفس المدى. واستجابة هذا الجمهور لها وتفاعله معها، يكون كبيراً. واهتمامه بها وتجاوبه معها بالغاً. فهي “لا تخاطب العقول، بقدرما تتجه إلى العواطف والمشاعر”، كما يذهب د.علي بن فايز الجنحي. ولذلك، لا غرابة إذا كان للإشاعة كل هذه القدرة على سرعة الإنتشار والسريان.
“فالإشاعة من السهل أن تنطلق، وليس من السهل أن تتوقف، فهي تسير بسرعة النار في الهشيم، بل بسرعة الضوء”، كما يذكر د.ساعد العرابي، في زمن الأقمار الصناعية والهاتف النقال والشبكة العنكبوتية. فهي ما أن تخرج من فمٍ، حتى تقع في آذان تُقلِع إلى آذان أخرى، وفم ثالث، حتى تعم الآذان المقصودة كلها. إنها “ضجيج غير مهيكَل”، كما تعرفها بعض القواميس. وصدق تشرشل حيث قال: “يمكن للكذبة أن تدور حول العالم، بينما لا تزال الحقيقة ترتدي ملابسها”. وقد “تصبح الكذبة حقيقة إذا تم تكرارها بما يكفي”. كما قال لينين.
فهي، أي الإشاعة، تبدأ بخميرة صغيرة للحقيقة أو لِجزء منها، ثم يقوم الإعلام، والمروجون، والناقلون، بالنفخ في تلك الجذوة الصغيرة، وجعلها ناراً حامية حارقة، تسري سيراً وبائياً وتفتك بضحاياها، مُجْهِزة على الأخضر واليابس. إنها لا تميز فحوى الخبر، إنما تسعى لنشره، ونشره فقط. لأنها، كما يقول نور الدين الزاهي، “ظاهرة لغوية تواصلية ترتكز على محكيٍ وليس على حدث. محكي يزعم أنه يقول الحقيقة، معتمدا في ذلك كل أدوات التواصل المنظمة وغير المنظمة.”
فالإشاعة، كما يقول شاكر سليمان، قد “تولد ميّتة على يد صانعها، لكن جمهور المروِّجين هو الذي يبعث فيها الحياة”. وقد ينخرط في عملية النقل والنشر والتداول هذه، أشخاص أبرياء، دون علم، أو فهم، أو معرفة، أو تروٍّ، أو تقصٍّ منهم. يسري عليهم في ذلك ما قاله بعض الحكماء، من أن “الآراء والأخبار الكاذبة المكذوبة كالعملة المزيفة، يسُكّها المجرمون، ويتداولها الناس الشرفاء”.
والإشاعة بهذا المعنى، أي بحمولتها من الإفتراء والإدعاء، والتبخيس والتشهير والتحطيم، كما يفسر عويضة، إنما “تُعبّر عن الكراهية، أو تنطوي على نقد سياسي، أو تضطلع بالتنفيس عن بعض مشاعر انفعالية مقموعة”، ومكبوتة لدى الطرف أو الأطراف الواضعة والمروجة لها.
وفي الحقيقة، لا يختلف مجرى الإشاعات بهذا الشكل، عن المجرى العادي للأقاصيص العدائية والمنطوية على الإتهام، والفضح والتشهير والشماتة.
“إن انتشار الإشاعات، كما يقول د.ذياب، قد زاد في هذه الأيام بسبب التنافس الشديد بين الأفراد والمؤسسات، وأصبح البحث عن وسائل إضعاف وتدمير الطرف الآخر، أسهل الطرق لنجاح بعض الأفراد والأطراف. كما أن الآلة قد دخلت كوسيط لنقل الإشاعة بين الفرد والفرد، أوالمُرسِل والمستقبِل..” وهو ما يغرق المجتمع في حروب فاسدة ظالمة، تحطم صروحاً، وتهدم روابط ووشائج، مُكرسة بذلك الفرقة وسوء الظن بين الناس، ومخلفة عداوات وأحزانا وآلاما، وحطاماً اجتماعيا ونفسيا وأخلاقيا، يصعب رتقه وترقيعه.
“إن الإشاعة بذلك، كما يقول د.ساعد العرابي الحارثي، عمل مُضرّ لا يقتصر ضرره على الأفراد، بل قد يشمل المجتمع كله، فلا أحد يَسلم من شرورها وانتشارها، ما دام هناك تنافس في الحياة، في مختلف المجتمعات ومصالح متداخلة.. وسوء قصد، ونفوس مريضة، تسعى لتحطيم صورة مثالية عن إنسان تعاديه.!”.
ولا عجب، “فللإشاعة، كما يقول العميد مهدي علي دومان، قدرة على تفتيت الصف الواحد، والرأي الواحد، وتوزيعه وبعثرته. فالناس امامها بين مُصدق ومُكذب، ومُتردد ومُتبلبل. تجعل من المجتمع الواحد، والفئة الواحدة، فئات متعددة.
فكم أقلقت من أوضاع آمنة، وأشخاص أبرياء، وحطمت من عظماء، وهدمت وشائج، وتسببت في جرائم، وفككت من علاقات وصداقات، وكم شوهت من صور، وكم هزمت من جيوش وأخرت سير أمم؟!
فهي الخنجر السام الذي يطعن الأبرياء من الخلف، وهي وباء اجتماعي، وظاهرة.. يجب على كل شعب أن يتكاثف على مقاومتها والقضاء عليها.”
“إنه ليس أضرّ على المجتمع، كما تقول الأستاذة ليلى غليون، من أن تعبق في أجوائه روائح الإشاعات، تلوثه وتخنق أنفاسه، فكم من كلمة خرجت كالسيف البتار.. نسجها خيال وقلب مريض، فككت أسَراً بأكملها، وكمْ من كلمة خبيثة خرجت من منبت خبيث، قطعت علاقات وطيدة، وهدمت جسورا اجتماعية.. ذلك لأن الإشاعات أصبحت جسرا، يتخذه ذوو العقول المنحرفة للوصول إلى أهدافهم ومآربهم.. ومنطلقاً لبث ما تحويه نفوسهم الخبيثة من قول مغلوط، ليصبح سوق الإشاعات رائجاً بالتجارة الفاسدة، ويعج بالتجار ذوي النفوس المريضة، الذين يصطادون في الماء العكر، أو بالأصح يُعكّرون المياه للإصطياد فيها. ” وهم بذلك يصيبون مناعة المجتمع في العمق، ويخلخلون طاقاته الكامنة، ويفككون أواصره وتماسكه. ويدفعون به إلى شفير الهاوية.!

ملحوظة: لقد كان الباعث والدافع لكتابة هذا المقال، ومن خلاله النبش في حقيقة الإشاعة وكنهها، هو كوني تجرعت من كؤوسها
المريرة، نقيع العلقم وجنا الحنظل ومر الصاب.