بقلم : نورالدين زاوش
ينط العجب لعينيك، ويأكل الاستغراب قطعة من وجنتيك، وأنت تشاهد فيديو للسيد الوزير “نجيب بوليف” وهو يتحسر على عدم قدرته الالتحاق بمقهى “الرْمِلة” بطنجة لتناول “البِصَارة”، أكلته المفضلة، مثلما تعود أيام المعارضة الزاهية، يحكي هذا، والألم يعتصر قلبه الكبير، والحزن باد في ملامح وجهه الصبوح.
لقد فطن السيد الوزير بدهائه وفطنته، إلى أن كلمته تلك، والتي ألقاها في جمع من محبيه، لن يخرج منها إلى عالم “اليوتوب” سوى هذا المقطع المؤثر، لكن الذي لم يفطن إليه، هو أنه حينما كان يحكي عن معاناته في عدم قدرته على معانقة “البَيْصَار” من جديد، صاح بعض أتباعه من أجل تسليته وجبر خاطره، ناصحين إياه بالصبر والجَلَد، بعدما استشعروا حجم المأساة التي يعيشها زعيمهم الرباني، وأحسوا بمرارة الابتلاء الذي حل بقياديهم الجليل.
شاهد الفيديو على الموقع:
http://www.youtube.com/watch?v=LLmWC8H-xws
إنه لعمري ابتلاء عظيم، لا يقو على تخطيه أحد، فكيف لرجل تعود على أكلة “البيصارة” أن يفارقها في يوم من الأيام، ويغيرها بما لذ وطاب، على موائد تنزل من السماء؟ وكيف لمن ألف امتطاء سيارات تقضي نصف الأسبوع في مرآب الميكانيكي، أن يتحمل امتلاك سيارات لم تصادف يوما ميكانيكيا ولو على قارعة الطريق؟ بل كيف لمن ذاق حلاوة شظف العيش، وعاش متعة قلة الحيلة وقصر اليد، ونزوة الارتعاش من شيخ الحومة، خوفا من أن يلمح لقاءاتهم السرية فيخبر بها سعادة القائد، أن يتحمل مرارة العيش بعدما صار ممن يأتمر بأمرهم وزير الداخلية، ويتبع تعليماتهم أكبر المسؤولين في هذا البلد الحبيب؟
كل هذه الأسئلة قد نجد لها جوابا، أو ثلث جواب، إلا سؤالا واحدا ظل يرن في أذني سنوات طويلة: أين تم تصنيع مثل هذه النماذج التي نصحت “بوليف” بالصبر على النعم، وحثته على تحمل كثرة الخيرات وتنوع الملذات، وعزَّتهُ في فقدانه للفقر، وفي حرمانه من الحرمان والخوف والألم؟ وأي مختبر هذا الذي تم فيه تعقيم عقولها، وتخدير قلوبها، حتى صارت هياكل عظمية مكسوة بشيء من اللحم؟ وما هو حجم الإبر التي تم غرسها في عروقها، فَشَلَّت إرادتها، وقتلت فكرها، وأتت على آخر بذرة من جهاز مناعتها؟
إن الإشكالية ليست في قياديي العدالة والتنمية، فهؤلاء قد أذاقهم الله طعم السراء بعد الضراء، فلن يتخلوا عنها ولو بحد بالسيوف، المشكلة الجوهرية فيمن يَتَّبِعونهم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو أنهم دخلوا جحر ضب لدخلوه معهم؛ فلو كان في العالم عدالة كافية، لفاز حزب العدالة بجائزة نوبل في البيولوجيا، بعدما تمكن من استنساخ سلالة بشرية جديدة.
حينما تشتغل في حركة التوحيد والإصلاح سنوات طويلة، توشك أن تصاب بانفصام الشخصية، من كثرة ما تقف على عالمين متوازيين قلما يتقاطعان، عالم “الإخوان” الذي يظهر لك أنه عالم حب الله ورسوله، وتدارس هموم الأمة، وعالم “الحقيقة” حيث يسعى كل فرد إلى قضاء مآربه في الحياة.
حينما تكون بمقر حركة التوحيد والإصلاح، أو في الجلسة التربوية الأسبوعية، أو في رباط، أو في جموع عامة، أو مؤتمرات حزبية، أو وسط الإخوان، فأنت في عالم “الإخوان”، تتحدث باللغة العربية الفصحى قدر المستطاع، وتستشهد بآيات القرآن، وسنة النبي العدنان، وأثر السلف الصالح، وتتصرف بطريقة المؤمن الورع، فتكثر من الابتسام، وتُشَمِّت العاطس، وتأكل بيمينك ومما يليك، وتستاك بعد كل وضوء، وتتطيب عند كل صلاة، وتُنْصت لأناشيد “أبو البِشر” و”أبو راتب”، وحينما تتحول إلى عالم “الحقيقة”، تندمج في المحيط الجديد، وتغرق في تفاصيل الحياة، فتتحدث عن البارصا أكثر مما تتحدث عن فلسطين، وتشرب بشمالك، وتنصت لأغاني “أم كلثوم” و”عبد الوهاب”، وتتبادل النكت والطرائف، وتضحك حتى تبدو نواجذك.
إن هذين العالمين بما يَحْوِيَانِه من مفارقات عجيبة، شَكَّلا لنا سلالة جديدة من البشر، لا تتعامل بِسَجِيّة، ولا تتفاعل بتلقائية، وترى في عالم “الإخوان” أنه امتداد طبيعي لعالم الصحابة الأطهار، وترى نفسها الوريث الشرعي في الدفاع عن هذا الدين الحنيف، والخليفة الطبيعي للتحدث باسمه، والدفاع عن مقدساته وأهدافه، وأن كل من ينتمون إلى عالم “الحقيقة” من غير “الإخوان”، إنما هم أناس “المعاش”، يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة غافلون.
لهذا، فلا حزب في البلاد إلا حزب العدالة والتنمية، ولا شريف فيها غير شرفاء العدالة والتنمية، ولا خطط فيها إلا خطط العدالة والتنمية، وأما من عارض الحزب فهو مشوش، ومن كتب فيه مقالا فهو حاقد أو حاسد أو جاهل، ومن احتج عليه فهو تمساح أو عفريت، ومن قال فيه رأيا فهو عدو للإسلام والمسلمين، لا يُرجى منه خير، ولا يُتَوّقع منه صلاح.
هكذا تقمصنا الإسلام في ذواتنا الفانية، واختزلناه في خططنا الغبية، حيث ألغينا الآخر، ومنعناه حقه في التعبير، بل وحتى في الوجود، وصرنا، ونحن في عالم “الإخوان”، ننظر إلى بعضنا البعض ونحن في غاية الاستغراب، حينما نشاهد على التلفاز، قياديا من أحزاب “المعاش”، يستشهد بآية من القرآن العظيم، أو بحديث من أحاديث النبي الكريم، وكثيرا ما كنا ننفجر بالضحك، حينما نرى امرأة، غير مُحَجبة، تتحدث عن عدل الخلفاء الراشدين، أو تضحيات الصحابة الأطهار، وكأن تاريخ الإسلام مِلْك لطائفتنا الناجية، أو جماعتنا الرائدة، أو حزبنا العتيد.
هذه هي المختبرات السحرية لحزب العدالة والتنمية، والتي عدَّلت الإنسان جِينيا، فجعلت منه أشبه ما يكون ببني الإنسان.
ملاحظة: من أراد الإطلاع على عينة من هذه السلالة الجديدة، فما عليه إلا أن ينظر في تعليقات الكتائب الإلكترونية “المجاهدة”، على هذا المقال “الحاقد” و”السطحي”.