بقلم: عبدالحق الريكي
كان وضع عائلتي صعبا، أمي خائفة وزوجتي قلقة وأبنائي يتساءلون كل حين عن ما يمكن أن يصيبني وإياهم من سوء، جراء تسليط الأضواء عليَّ فجأة، ودخول رجال الحال على الخط وتعقب خطواتي واستدعائي لمقابلة وزير الداخلية القوي حول “ثورة العَدَسِيين”…
وبكلمات بسيطة، شرحتُ لهم الموقف والرهانات وقلت لهم : اليوم علينا أن نكون في المستوى، مستوى التحديات المطروحة… علينا مواجهة قَدَرنا بصبر وثبات، مطلوبٌ منَّا نحن قبل الآخرين أن نكون متضامنين ومتَّحدين وألاَّ نترك أي جهة تفرق صفوفنا… انْدَهَشتُ من طريقة حديثي معهم، بثقة عالية وكلام واع وجذاب، وفهمتُ أن الوعي التاريخي بدأ مفعوله، هذا الوعي الذي يظهر فجأة وبدون إعلام في اللحظات الصعبة…
في نفس الوقت الذي كنت أُحَدثُّهم، فتحتُ هاتفي ووجدت فيه باستغراب مئات المكالمات والميساجات، ومئات التعليقات على صفحة الفايسبوك، والمشكل أن هذا الكم الهائل من الرسائل، آت ليس من مدن المغرب فحسب بل من الكثير من العواصم العربية والإفريقية والعالمية… يا إلهي لطفك… فَهِمتُ حينها أن الأمس ليس كاليوم واليوم لن يكون كالغد… انْفَضَّت الجموع من الحارة، وغادرت عائلتي الكبيرة منزلي، وبدأتُ الاستعداد لقضاء ليلة هادئة بعد صخب يوم جمعة مبارك، رغم عدسه الساخن وكسكسه الذي عليَّ أداء ثمنه يوم الإثنين…
ليلة الجمعة-السبت، الساعة الواحدة صباحا…
وأنا غارق في أحلامي، إذ بالهاتف يرن… طَلبتْ منِّي المَدَام أن أَرد… قلت لها : في الغالب رقم خاطئ، لننتظر إن كان سيعاود الاتصال… لَمْ أُنهي جُملتي حتى رن الهاتف مرة أخرى… كُنت أريد إسكاته لولا إلحاح زوجتي عليَّ بضرورة الرد… أَخدتُ نَفَسي (شعرت أن هذه المكالمة سَتَقلبُ حياتي) وقُلت : ألو، نعم… جاءني الصوت من بعيد، ولكن بحماس ووضوح وثقة في النفس… قال : السلام عليكم، معذرة على الإزعاج في منتصف الليل، ولكن عجلة التاريخ لا تتوقف، تدور ليلا ونهارا (سَمِعتُ صوتا نسائيا يُطالِبه بالذهاب لعُمق الموضوع)، زاد قائلا : العفو، أيها القائد العَدَسي، قررنا تعيينك، وفي غيابك، منسقا وطنيا للائتلاف الوطني للعَدَسِيين…
قلت له : ماذا؟ لا أفهم شيئا، وإِن كانت مزحة، فأَرجُوك، أنَا مُتعب وأريد أن أنام (كُنت في تلك الساعة ما بين نارين، بين ما أَسمعُه عبر الهاتف وبين المَدَام التي كانت تُلح على معرفة من معي على الخط وماذا يريد)… قال مخاطبي : هل أنت معي ؟ قلت بدون أن أشعر : نعم، نعم، أنا موجود… حينها اسْتَجمع أنفاسه واسْتَمر في الحديث : لقد دام اجتماع الإتلاف ساعات عديدة، الحقيقة أنه منذ ساعة إرسال تدوينتك لشعب الفايسبوك العظيم ونحن في تنسيق مستمر… تَيَسَّرت الأمور لأننا فَعَّلنا إطارات الربيع المغربي (حركة 20 فبراير)، ممَّا سهَّل العمل داخل المدن والقرى وقرَّرنا تكوين ائتلاف وطني للعَدَسِيين واقْترح الإخوة بمدينة طنجة احتضان الاجتماع التأسيسي الوطني الأول، الذي حضر أشغاله مندُوبَان عن كل مدينة وقرية، كما شاركت المدن البعيدة مثل الداخلة والعيون وورزارات وزاكورة وطاطا والراشيدية عبر السْكَايب، ولكن أكدوا حضورهم للمسيرة العدسية يوم الأحد بالرباط… قُلت له: مهلا، هل أَنْت جَاد في كلامك ؟… قال: أعتذر، لن أستطيع الإطالة في الكلام، المهم اتَّخذنا قرارات، منها ترؤُسك الائتلاف بإجماع الأعضاء وغالبيتهُم يعرفُونك من خلال الفايسبوك، وكذلك أن تُوَجه كلمة للحشود بباب الأحد قبل انطلاق المسيرة العدسية، ونحن واثقون أنك لن تُساوم على القضية العدسية حتى يتحقق شعارنا الخالد:”سوا اليوم سوا غدا العدس ولا بدا”.
أَرَدت الهمس بكلمة، لكن مخاطبي على الخط قال: سَأتركك، لدينا مهام كثيرة من أجل إنجاح مسيرة الغلابة أصحاب الحق في عدس رخيص وبجودة حديدية عالية، إنه المَدخلُ إلى الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية ومن أجل مجتمع العلم والتربية والإعمار والتصنيع والتكنولوجيا… وخَتم مكالمته بكلمة أخيرة : أُكرر كلامي، إننا اخْترناك بعد أن اقْتنعنا أنك لن تَبيع قضية العَدَس العادلة ولن تَتَخاذل ولن تَغُرك الحياة الفانية… ونحن هنا مجموعة من الشباب والشابات من مختلف المشارب والتوجهات، إسلاميين ويساريين وليبراليين، فَهِمنا أن تجويع الشعب القَصدُ منه خلق إنسان لا يُفكر إلاَّ في إشباع حاجات بطنه وإبعادُه عن مَشَاغِل العقل والفكر والإحساس والوجود البشري… أُوَدِّعك الله ولا تنسى أن ما يجمعنا هو “أُوبُونْتُو”!!… مَكَثت لهُنيهات شَارداً في أَفْكاري، أُرَدد “أوبونتو”، فعلتها يا “أوبونتو”…
سَاعة كاملة ومحدثي يَتَحدث وأنا أُنْصت إليه نَاسيا أنَّ عُيونا تُراقبني وهي للمَدَام بجانبي وآذانا تَتنصت للمكالمة وهي لأجهزة كثيرة، عَرفت ذلك لأنني قرأت يوما أن كثرة “الخرششة” خلال مكالمة هاتفية عنوان ضغط التنصت الخارجي، والله أعلم…
حَاولت المَدَام بكل الطرق معرفة من المخاطب وماذا يريد، لكني تَعَمدت إِخفاء الحقيقة هذه المرة حتى أُجَنبها ليلة سوداء، فقُلت لها: بدون شك أحد أصدقائي القدماء قرأ تدوينة العدس فَاتَّخذ قرارات ثورية وأراد تبليغي إياها قبل الخلود للنوم… قالت : أعرفُك جيدا، من قسمات وجهك أَقرأ أنك لا تقول كل الحقيقة، غَدًا مدبِّرها حكيم… نَم، فأنت مُتعب أكثر مني…
خَلَدت للنوم وأنا شارد في “الأوبنتو”، وتذكرت قصتها وكيف تجاوب معها شعب الفايسبوك… أَرْسل لي صديق عبر الواتساب حكاية عميقة آتية من أعماق إفريقيا وكان الزعيم الخالد “نيلسون مانديلا” يَذْكرها كلما أُتيحت له الفرصة، عَمَّمتها عبر جداري الفايسبوكي هكذا : «هلْ تَعرفون معنى Ubuntu ؟… قَام أحد علماء الأنثروبولوجيا بِعرض لُعبة على أطفال أحد القبائل الإفريقية، فَوضع سلة من الفواكه اللذيذة قُرب جِذع شجرة وقال لهم بأنَّ أَول طِفل يصل الشجرة سيحصل لِوَحده على السلة بما فيها…
عندما أَعْطاهم إِشارة البدء تفاجأ بِهم يسيرون سَويا مُمْسكين بأيدي بعضهم البعض، حتى وصلوا الشجرة، وتَقَاسموا الفاكهة اللذيذة. عندما سألهم لماذا فعلوا ذلك فيما كان بإمكان أي واحد منهم الحُصول على السلة بمفرده، أَجَابوه بتعجب : أُوبُونْتُو Ubuntu كيف يستطيع أَحدُنا أن يكون سعيداً فيما الباقون تُعَساء ؟! أوبونتو Ubuntu في حضارة قبائل إفريقية عريقة تعني : (أَنَا أَكُون لِأَنَّنَا نَكُون)…
ليلة الجمعة-السبت، الثالثة صباحا…
مَا كِدْت أن أُغمض عينيَّ، إِلا ودقات قوية على باب منزلي تَهُز جسدي وحواسي… كَابوس هذه الليلة يبدو بدون نهاية… دَقَّات أخرى أقوى من الأولى… سَمِعتُ المَدَام تقول : انْهض، لعلهم لصوص في العمارة، أو حريق، الله يَسْتر… نَهَضنا واتَّجهنا نحو الباب وأضأت المصباح الخارجي وقُلت بصوت شُجاع : من الطارق ؟ قال : أنا، رجل الحال الذي صلى مَعك البارحة وأَكل الكسكس وسَاعدك على الدخول لمنزلك… قُلت : وماذا تُريد في ظلمة الليل الحالك ؟ جَاء صوته هذه المرة بِنبرة حَادة ولكن مُؤدبة : أرجوك إني مُتعب أكثر منك منذ تدوينتك العدسية، والآن أَطلبُ منك فتح الباب لكي أُخبرك بشيء مهم، وأَرجوك ثانية أن تفتح الباب بالتي هي أحسن وإلاَّ تدخَّلت “القوة التاسعة” بطريقتها المعهودة…
قُلت في نفسي : لا حاجة لنا بالقوة التاسعة وأَنا أَعرف قُوَّتها وهي المُتخصصة في التَّدخل في الملفات الأمنية الكبرى… فتحتُ الباب ودخل نفرٌ لا يُعد ولا يُحصى من رجال الحال وبدؤوا في البحث عن شيء ما بكل غرف المنزل… تَقدم رجل الحال سريعا لطمأنة عائلتي وقال لي : غَيِّر ملابسك، وزير الداخلية في انتظارك… حينها رَجَعت ذاكرتي لأحداث فيلم “احْنا بِتُوع الأتُوبِيس” حيث سيعيش جَابِر (عادل إمام) ومَرزُوق (عبدالمنعم مدبولي رحمه الله) أحداثا دراماتيكية ولكن على الشاشة الكبيرة… أمَّا أنا فيبدو أني سأعيشها في الواقع الحي وليس الافتراضي… لطفك يا رب..
التتمة في الحلقات القادمة… إذا تيسرت الأمور ستكونون مع الحلقة الرابعة وفيها تطورات ثورة العدسيين والتفاوض مع حكومة تصريف الأعمال من رئيس حكومة ووزراء الداخلية والفلاحة وعن المسيرة وقمعها واعتقال ثوار العدس وإطلاق سراحهم بعد تدخل الأمريكان وانتفاضة الغلابة بمعظم العواصم العربية وتضامن شباب وشابات أمريكا وأوربا وتدفق الصور والمعلومات والمعطيات عبر غوغل والفايسبوك والتويتر والواتساب والإنستغرام… ووووو… الله الموفق…
بقلم : عبدالحق الريكي
الرباط، 28 أكتوبر 2016.