بقلم : المختار أعويدي
مع بداية كل موسم دراسي، تتجدد المحنة بمدينة العروي، وتبدأ آلة الهدر المدرسي في اجتثات أعداد كبيرة من تلاميذ السلك التأهيلي من مقاعد الدرس، وخاصة التلميذات منهن، لترمي بهم وبهن في غياهب الجهل والضياع.
وتبقى الأسباب المنتجة لهذا المصير المرير لأبنائنا وبناتنا بالمدينة، هي هي منذ سنوات، ثابتة لا تتزحزح. رغم صرخات النجدة والألم المدوية في أرجاء المدينة، من مختلف الأطراف، وخاصة من الفاعلين المعنيين بالشأن التربوي بالثانوية. ما جعل الأرقام الناطقة بهول هذه الظاهرة واستفحالها، على مدار السنوات المتعاقبة، ومعها تعاقب أفواج المسؤولين، سواء الماسكين منهم بزمام القرار التربوي الإقليمي والجهوي، أو القائمين منهم على تدبير الشأن المحلي، صادمة مخجلة، لا يسعد بها إلا لئيم.
فوجود ثانوية تأهيلية واحدة فريدة يتيمة قصية، تقبع خارج التخوم الشرقية لمدينة يبلغ تعداد ساكنتها قرابة 50 ألف نسمة، هو مبعث خزي وعار، وجريمة صامتة ترتكب ببشاعة في حق أجيال وأجيال من الناشئة، التي تجبر على الإنقطاع والعزوف عن الدراسة اضطرارا وإكراها، وليس اختيارا، تحت سيف البعد الجغرافي القاهر، والغياب الكلي لوسائل النقل المدرسية أو العمومية، التي كان بإمكانها التخفيف من حدة المشكل وتعقيداته وتداعياته.
مؤسسة وحيدة بئيسة بتجهيز متآكل ومتقادم، عفى عنه الزمن. قرابة ثلثي قاعات الدرس بها، هي من نوع البناء المفكك المُسرطن، المنتمي إلى عصر آخر، يحشر فيها التلاميذ حشرا، وبأعداد تفوق طاقتها الإستيعابية، المهيأة لتحملها. ما يجعل شروط التمدرس حتى في حدودها الدنيا، وإدراك الكفايات، وتحقيق جودة التعلمات، والإرتقاء بالمردود الدراسي للتلاميذ، حلما بعيد المنال.
قاعات ضيقة، مُعرضة لصنوف التحولات المناخية المتطرفة، حرا وقرا وزمهريرا، إضافة إلى أجواء الإختناق المخيمة فيها على الدوام، والناتجة عن تقاسم جيش من التلاميذ وأستاذهم لحفنة أوكسجين، لا يتسع لها فضاؤها الضيق، وسقوفها المنخفضة الواطئة، التي تكاد تلامس هامات التلاميذ طوال القامة. ناهيك عن حشر المدرس في زاوية ضيقة من القاعة، لا تسمح له بالكاد، سوى بالدوران في نقطة معينة، ومحور دائي، فأحرى أن توفر له إمكانية استعمال الوسائل التعليمية المختلفة، والمراقبة المستمرة للأعمال والواجبات المدرسية، والتواصل الإيجابي مع التلاميذ !!!
لقد ظلت ثانوية ابن الهيثم، رغم التهميش والإقصاء واللامبالاة من قبل المسؤولين، ومن مختلف الفاعلين المدنيين بالمدينة، الذين لم يكن يهمهم من الأمر في كثير من الأحيان، سوى تصيد زلاتها وأعطابها، وشن الحملات المغرضة البائسة ضدها، تـُصارع وتناضل لوحدها لتسد الخصاص، وتستوعب الأفواج الهائلة المتدفقة عليها سنويا، من أبناء المدينة، وبعض القرى المجاورة. وتُخرج أفواجا وأفواجا من حملة شهادة الباكالوريا، وتنتج أطرا متعددة ومتنوعة في مختلف المجالات والتخصصات، قلَّ، أو ربما انعدم، مَن بادر منهم بالتفاتة عرفان، أو رد جميل لمرافقها وتجهيزاتها المتقادمة المتهالكة المتآكلة، في نسيان ونكران فاضح جارح لفضلها عليهم جميعا.
واليوم وبعد ثلاثة عقود، من التضحيات والعطاء والمعاناة، هو العمر الزمني لمؤسسة ابن الهيثم، وبعد التمدد السرطاني للمدينة في كل الإتجاهات، وأمام الطفرة الديموغرافية الهائلة لساكنتها، ضاقت الثانوية بأبنائها التلاميذ بما رحبت، وعجزت مكرهة مجبرة عن استيعابهم جميعا تحت حضنها الدافئ، كما كانت تفعل دائما طوال هذا الردح من الزمن. بفعل ضعف وتقادم وتهالك وعدم كفاية مرافقها، أمام فيض الأعداد الكبيرة الوافدة عليها من التلاميذ، والطلب المتعاظم على مرافقها. لتجد نفسها يتيمة وحيدة أمام جسامة المشكل، وهول تقصير وتقاعس المسؤولين كل المسؤولين، سواء منهم المنتخبين أو الإداريين أو القائمين على الشأن التربوي، وحتى منتجي “خطابات التنمية” الشفوية الجوفاء العرجاء، من جميع مكونات المجتمع المدني، التي كان حريا بها، عوض التطبيل والتزمير لهذا المنتخب أو ذاك، والهتاف باسم هذا البرلماني أو ذاك، تنظيم حملة واسعة، وطرق جميع أبواب المسؤولين، الذين يغطون في سبات عميق. لأجل تحفيزهم، بل إجبارهم على التعجيل بتوسيع العرض التربوي التأهيلي بالمدينة. من خلال استحداث ثانويتين تأهيليتين على الأقل، وذلك أضعف الإيمان. بهدف إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أفواج المغادرين لمقاعد الدرس، تحت ضغط البعد الجغرافي، وخاصة منهم الإناث، وتوفير ظروف وأجواء تمدرس سليمة، عوض ترديد معزوفة “مقاربة النوع” المتآكلة، في المجالس واللقاءات الشفوية الكثيرة غير المجدية.
تجد الثانوية نفسها اليوم، في ظل هذا النكران واللامبالاة، تقوم مكرهة بصرف جزء من أبنائها، وعدم الترحيب بهم منذ الموسم الماضي، بما يعادل خمسة أقسام، و”تصديرهم” بل حشرهم حشرا بثانوية النجاح الإعدادية، حيث لم يكن مُرحبا بهم البتة هناك، حتى أن كراسي ومكاتب الطاقم الإداري المكلف بالإشراف على هذه الأقسام، تم نقلها من ثانوية ابن الهيثم إلى الإعدادية المذكورة، في غياب تام للحد الأدنى من ظروف وشروط التمدرس، وانعدام كلي للوسائل التعليمية، أمام رفض إشراكهم في استعمال الوسائل التعليمية الخاصة بالمؤسسة المذكورة على قلتها وعلتها.
إن مدينة العروي اليوم، تعيش كارثة حقيقية على مستوى العرض التربوي، وتشهد ترديا غير مسبوق، على مستوى ظروف التمدرس بكل الأسلاك التعليمية، وخاصة منها السلك التأهيلي. فالثانوية التأهيلية اليتيمة بالمدينة، قد بلغت درجة “التشبع” والإحتقان، على مستوى استيعاب أفواج التلاميذ الوافدين عليها من روافدها المتعددة، ولذلك فاضت بهم على حساب مؤسسة النجاح الإعدادية التي أعارتها، وهي ليست أحسن حالا منها، بضع قاعات، لأجل استيعاب حوالي خمس أقسام من الجذوع المشتركة، يدرسون في ظل ظروف تربوية مخجلة. فلا مختبرات، ولا قاعات خاصة، ولا وسائل تعليمية.. ولسان الحال أبلغ من المقال. ومع ذلك، وبرغم هذا الإجراء الإستثنائي، تشهد ثانوية ابن الهيثم اكتظاظا غير مسبوق في كثير من الأقسام والشعب. أمام كارثية قاعات الدرس ووضعها المزري كما سلف. وهو ما يجعلها اليوم لا تقوى حتى على الإستجابة لجميع طلبات تغيير توجيه تلامذتها، وهو الحق الذي تضمنه كل النصوص والمذكرات الوزارية المنظمة. ولا تقوى أيضا على ضمان مقعد للتلاميذ القاطنين بجوارها، ما يجعلهم مهددين بالإنقطاع الدراسي، وفي أحسن الأحوال بقطع مسافات طويلة يوميا جيئة وذهابا، تعد بالكيلومترات مع ما يعنيه ذلك، من إرهاق وإجهاد، وبالتالي تأثير سلبي على مستوى أدائهم الدراسي.
إن جمعيات الآباء، كل جمعيات آباء التلاميذ لجميع المؤسسات التربوية بالمدينة، وهي جميعها معنية بهذا المشكل عاجلا أم آجلا، وحتى فدرالية جمعيات الآباء، لم تقم أمام هذه المشاكل المتفاقمة، سوى بالتفرج والتقاعس، واستخلاص واجبات الإنخراط، وإنتاج خطابات التبجح والتفاخر بالمنجزات، من دون أن يحرك الأمر فيها ساكنا.
يحدث كل هذا والمسؤولون السابقون منهم والحاليون، يغردون في واد آخر، بعيدا عن إكراهات الشأن التربوي وتداعياته، وكأني بهم غير معنيين بما يحدث. .
إن المدينة اليوم تسائل مجموع المعنيين بالشأن التربوي، من وزارة، وإدارة إقليمية وجهوية وصية، ومنتخبين محليين، وبرلمانيين، وجمعيات آباء وأولياء التلاميذ، وفعاليات المجتمع المدني متعددة المشارب، وإعلام محلي، تسائلهم جميعا، ماذا قدموا لأبنائها التلاميذ من فرص توسيع العرض التربوي، والعمل على تحسينه وتجويده والإرتقاء به، غير الخطابات الرنانة الطنانة، التي لا تسمن ولا تغني من جوع. ماذا قدموا لها، غير التفرج على الأفواج المتلاحقة من التلاميذ ضحايا الهدر التربوي، الناتج عن ضعف العرض التربوي، وغياب توزيعه الجغرافي المتوازن. ماذا قدموا لها غير توظيف خطاب الشأن التربوي في مناسباتهم المختلفة الإنتخابية أو الإحتفالية.. لتحقيق المآرب وبلوغ الغايات.
هذه صرخة استغاثة وتنبيه، إلى ما تشهده ثانوية ابن الهيثم التأهيلية، ومعها كامل مدينة العروي، من تكدس وضغط غير مسبوق لأعداد التلاميذ، أمام طاقتها الإستيعابية المحدودة المعدودة، وتجهيزاتها المتآكلة، التي ظلت جامدة صامدة منذ سنوات طوال. ما جعلها عاجزة عن تلبية احتياجات الأعداد المتزايدة من التلاميذ المقبلين عليها، واضطرارها إلى نقل تدريس جزء منهم إلى مؤسسة إعدادية النجاح، كما سبق، في ظل شروط لاتربوية، وفي ظل انفجار سكاني متنامي للحاضرة، ناهيك عن انعدام أي مؤشرات فعلية في الأفق، على نية استحداث ثانويات تأهيلية أخرى بالمدينة، من شأنها المساهمة في امتصاص جزء من الطلب المتعاظم على السلك التأهيلي، واستقبال الأفواج المتزايدة بوتيرة سريعة، والتغلب على إكراه البعد الجغرافي وما يفعله من فعل في تفاقم ظاهرة الهدر المدرسي، وعزوف التلاميذ وأسرهم على السواء على الإلتزام بالتمدرس.
أشعر بخجل غامر وغصة مريرة وغضب عارم، أمام هذا التواطؤ العام من جميع مكونات المدينة، على التفرج على تردي هذا القطاع الحيوي بالمدينة، واختزال سلكه التأهيلي في ثانوية يتيمة، أقيمت منذ ثلاثة عقود، على أنقاض بشرية، مطوقة بالمقبرة والطريق الرئيسية وواد ياو. يا للعار !! بينما الجميع يغني على ليلاه، ويطبل ويزمر ويهلل، لهذا المنتخب أو ذاك، لهذا البرلماني أو ذاك، لهذا المجلس أو ذاك. من دون أن يتحول هذا التطبيل وهذا التهليل وهذا “البندير”، إلى مطالب حقيقية تلزم هؤلاء على تحمل مسؤولياتهم القانونية والأخلاقية، تجاه الإرتقاء بمدينتهم الرائعة في مختلف المجالات، وخاصة مجال التعليم. فبالتعليم ترقي الأمم وتتقدم، وبه تبلغ أوج قوتها وعظمتها !!