بقلم: امحمد لقمـــاني :
لعل أخطر ما قد يصيب الدول والمجتمعات في اللحظات المفصلية من تاريخ انتقالها الصعب نحو الديمقراطية، هو انفراط ذاك العقد الاجتماعي الذي توافقت حول بنوده كل القوى الاجتماعية، سياسية كانت أم غيرها، حتى تفرقت بهم السبل إلى غير رجعة معرضّين بذلك أسس شرعية الدولة إلى الانهيار، ووحدة الجماعة الوطنية إلى خطر التقسيم والاحتراب الداخلي.
ولأن الدستور، في متنه وبنيانه، يجسد شكل الدولـة و طبيعة النظام السياسي، و يحدد مصادر شرعياته التي توفر له المقبولية والمشروعية، فإن المضمون السياسي والاجتماعي والثقافي للوثيقة التعاقدية تلك إنما يتوقف على درجة الوعي التاريخي والديمقراطي للنخبة السياسية الحاملة للمشروع المجتمعي المتوافق عليه. و هذا الوعي التاريخي يتحقق لحظة الالتزام بالشرط السياسي الديمقراطي التشاركي الذي هو دليل إرادة البناء المشترك وعنوان نجاحه في تحقيق تفاعل خلاق و تكامل في الوظائف و الأدوار بين الفاعلين الأساسيين داخل المجال السياسي الوطني.
لقد شكل دستور 2011 لحظة تاريخية لبناء التوافقات حول إعادة صوغ المجال السياسي على أساس دستوري تعاقدي ينتصر للتنظيم العقلاني السياسي للدولة ويكرس منظومة حقوق الإنسان في شموليتها. غير أن التمايزات الحدية في المرجعيات الإيديولوجية للأطراف العاملة داخل المجال السياسي الوطني، لا تساعد إطلاقا على تأسيس تفاهمات سياسية حول الحد الأدنى المطلوب في هذه المرحلة التاريخية المفصلية، وهو الشرط الأساسي لبناء مجال سياسي عمومي يتسع لجميع التعبيرات بالوجود والتداول والمشاركة، ويسمح لجميع التيارات بالمساهمة في تمتين البناء المؤسساتي والديمقراطي للدولة والمجتمع.
لهذه الغايات بالذات تم إدراج الخيار الديمقراطي ضمن ثوابت المملكة الغير قابلة للمراجعة، واعتباره ضمانة أساسية و جواباً متقدما على إشكالية انفتاح المجال السياسي على حقائق التراكم السياسي في أفق صيرورته مجالا عموميا حاضنا لديناميات مختلف الفاعلين في المجتمع. غير أنه بعد قرابة خمس سنوات من التدبير الحكومي لنخبة سياسية وحزبية جديدة، بدأت تتسع دائرة الإحباط من جدوى اعتبار الدستور كمدخل للإصلاح والتحديث والعدالة الاجتماعية، وهي الفجوة التي قد تشكل مدخلا للتشكيك المنهجي في مؤسسات الدولة، وقد تقود – في بعض الحالات – إلى البحث عن ملاذات جديدة توفر -شروطاً أفضل للحماية والعناية والرعاية، خاصة مع بروز توجهات أصولية تبيع الوهم للناس و تميل إلى نشر قيم الاستبداد والنكوص العقائدي والفكري والقيمي، وتجهز على ما تحقق من مكتسبات ديمقراطية.
إن البلوكاج الدستوري لمدة تقارب خمس سنوات يحمل خطر رهن المشروع المجتمعي برمته، ذاك الذي درج الخطاب السياسي الجديد على توصيفه بالنموذج الديمقراطي المغربي، مما ستكون له تداعيات سلبية بمقياس هدر زمنٍ سياسيٍ ثمينٍ في مرحلةٍ مطبوعة بتسارع وتائر التنافس وتعدد المخاطر، وهو ما يفرض تقوية الداخل المغربي على جميع المستويات.
ولأن الفكرة الديمقراطية لا تجد لها تأصيلاً في التفكير الأصولي المغلق على اليقينيات، فمن باب تحصيل الحاصل أن يكون التعامل مع الوثيقة الدستورية بمنطق الربح الإيديولوجي أكثر منه سياسي. وحسب هذا الفهم، فأي مطلب لتنزيل الدستور وفق تأويل ديمقراطي، فهو يناقض القناعات الإيديولوجية والعقائدية المستمدة من عمق المشروع الأصولي الذي يتأسس على الاعتقاد بأن الحداثة والتعدد والتنوع والجهوية…، المستوردة جميعها من الغرب تعدّ ضربا للخصوصية الدينية و مصدر فتنة و تقسيم للأمة الإسلامية. من هنا نفهم جيدا عنف الخطاب السياسي الأصولي كلما تعلق الأمر بالحريات وحقوق الإنسان اللغوية والثقافية والنسائية والمجالية والمدنية…إلخ.
انطلاقا من هذه الخلفية الإيديولوجية، و لهذا السبب تحديدا تعمدّ الحزب الحاكم، طيلة ولايته الحكومية، تأخير الحسم في منظومة القوانين التنظيمية وحتى العادية المتعلقة بالمناصفة والمساواة بين الجنسين، و ترسيم الأمازيغية، والمجتمع المدني، وقانون الإضراب، والمحكمة الدستورية ،و ربط المسؤولية بالمحاسبة، و كذا المراسيم التطبيقية للجهوية الموسعة…الخ. فالأمر، إذن، لا يتعلق بمجرد غياب للإرادة السياسية، ولكنها عقدة التأويل الأصولي للدستور التي تطغى على ما سواها من التأويلات العقلانية والديمقراطية، حيث يتم اختزال قيمة الوثيقة التعاقدية في بعدها الديني والهوياتي، وهو الهاجس الأكبر الذي يتملك الحزب الدعوي الحاكم، ولا يهمه إن كان وجوده في الحكومة هو، أصلاً، ثمرة التفعيل الديمقراطـي لهذا الدستـور بـالذات.