بقلم : الخضير قدوري
انطلاقا من منطق الحكمة والعقل السليم، فلا وطن بلا مواطن ،ولا دولة بلا قانون ولا مجتمع بلا ضمير، لكن هذا لا ينفي منطق النقل العقيم للوهم باحتمال وجود مواطن بلا وطن ، وقانون بلا دولة ، وضمير بلا مجتمع . ومن المفترض إيجاد وطن بلا مواطن ، وتأسيس دولة بلا قانون ، وخلق ضمير بلا مجتمع . معادلة يستعصى فهمها إلى حد ما قد تجعل هذه الروابط ليست أساسية دائما في بناء أوطان من حجر مصقول بسواعد مواطنين أقوياء ، وتأسيس دول ترفع قواعدها على أكتاف مدبرين أكفاء ، وصناعة مجتمعات من معادن ثمينة تلملمها أنامل مبدعين يذاع لهم صيت في عالم الفكر والإبداع .
ولاهي ضرورية هذه الروابط في تنشئة مواطنين في مستوى المسئولية ،وتشريع قوانين لائقة تنبثق من عمق الأعراف السائدة ، وتنمية الضمائر في حظائر منيعة من كل اللقاحات الموبوءة، إلا أن يكون المواطن من طين وطنه ، يحتكم فيه إلى قانون دولة يولد من عرف أمته ، ويستجيب لضمير مجتمع ينبع من وطنية متوغلة في أفئدة رجاله ، ويتشبع من ثقافة متجذرة في أصول أجياله ، ثم يتمسك بأصالة متأصلة ضاربة في أعماق تاريخه .
ليست الوطنية شعارات يتغنى بها السياسيون في المهرجانات الخطابية ، ولا المواطنة جلابيب يتباهى بها المتدينون في الأعياد الدينية ، ولا المبادئ طرابيش يتميز بها المثقفون في المناسبات الوطنية ، ولا الضمائر خفافا صفراء يحتذي بها الشرفاء في كل المحافل الاجتماعية ، ولا الدولة سوقا يتاجر فيه بالكرامة الإنسانية ، ويتداول فيه بكل العملات الأجنبية ، فكل مواطن ليس من طين وطن قلما يستقيم انتماؤه ، وكل وطن يعتمد على غير مكوناته لا تتقوى دعائمه ، أو يستند على غير مقوماته فتشتد قوائمه ، وكل دولة تستورد ثقافتها وأدواتها والياتها لا يضمن الحال قيامها، وبالأحرى دوامها واستمرارها ، وكل مجتمع لم يتم تمنيعه من الأمراض المعدية ، وتطعيمه ضد الأوبئة الفتاكة يبقى إلى الأبد عرضة للمخاطر والمهالك المستوردة التي تسوقها إليه الرياح اللواقح شرقية كانت أو غربية مالم يكن نظامه التربوي حصنا حصينا وسدا منيعا .
ففي الاصطلاح إن كنت قد نشأت كغيري مواطنا مغربيا لا يمكن أن أكون إلا مستوطنا في بلد أخر ، بحكم إقامتي فيه لمدة قد تطول أو لا تطول ، وسيفرض علي هذا البلد الانصياع لقانونه حبا أو كرها ، وسوف لن يختلف حالي فيه عن حال أهل الذمة قديما، كما لا يمكن لوطني إذا رغب عني واستغنى عن نصرتي أن يستوطن غيري لنصرته إلا أن يقبل بإذلاله ويرغب في استعباده ، في هذه الحالة تحضرني مقولة احد القادة الفرنسيين المعمول بها باعتبارها قاعدة الفرانكفونية ” لئن يعلم الجندي الفرنسي كلمة باللغة الفرنسية لغيره ،هي أفضل بكثير من أن يغزو بلده ، وسيكون بذلك قد أدى خدمة جليلة لوطنه ” فمن منطق العقل لا يمكن بناء مجتمع على ارض الغير، وتأسيس دولة في دولة ، وصنع كيان في كيان وتشكيل حكومة في حكومة ونظام في نظام على غرار الجمهورية الصحراوية على ارض الجزائر أو على تخوم المغرب ، حتى وان كان شعب هذه الدولة الوهمية قادرا على احتلال المنطقة بالقوة ،سيبقى دائما كمن يقيم بناءه على الثلوج إلى حين تشرق الشمس، وسيتهدم بنيانه فيكون هذا المحتل مضطرا للخروج، أولئك من أسميتهم مواطنين بلا وطن ورجال دولة بلا قانون ومجتمع بلا ضمير .
وفي اللغة إن كنت أيضا قد ولدت امازيغيا أبا عن جد ، وانحدرت كغيري من رحم هذا الوطن وقبل أن نكون فيه مسلمين منذ أكثر من 12 قرنا ، وقد صنفنا بعد ذلك أميين لا نجيد القراءة والكتابة كوسيلة تمهد سبيلنا إلى الاندماج في مجتمع عربي عريق متشبعين فيه بإسلام يحثنا على سعي كتاب الله لفضا وغاية، ويدفعنا إلى تناول معاجم اللغة العربية والاطلاع على دواوين العرب ، كل ذلك قد احدث في حياتنا نقلة نوعية إلى عالم العلم والمعرفة ، وبعد ذلك منذ 65 سنة مع بزوغ فجر الاستقلال كنا قد كسرنا أخر حلقة من سلسلة قيد الجهل ، وتخلصنا كليا من أميتنا فأصبحت امازغيتنا في خبر كان ، لم يبق لنا منها سوى بعض كليمات نخجل من لفضها أمام أبنائنا وأحفادنا وأهلنا وخلاننا، رغم ذلك مازلنا أوفياء لامازيغيتتا ولعربيتنا ولن يقبل احدنا ألتنازل عن مغربيته أو التراجع قيد أنملة عن دينه والمساومة في عروبته أو يسمح في ذرة تراب من أرضه إلى آخر رمق في حياته .
لكن ما يهمنا ويجعلنا نقف وقفة تأمل قد تأخذ منا وقتا أطول من عمرنا، ومن عمر استقلال وطننا وعمر دولتنا ، هذا التذبذب السياسي الذي يريد أن يعود بنا إلى نقطة الصفر، وبداية هذه السنين لنعاود مسيرتنا ونصحح أخطاءنا ، فأتساءل عن الهدف الحقيقي المقصود بالظهير البربري بعيدا عن تفسير رجال زمانه الذين واجهوه بالرفض الكلي كشعب يؤمن بوحدته الجغرافية والتاريخية ،وقوميته العربية وعقيدته الإسلامية ويتشبث بهويته المغربية رافضا رفضا باتا الفكرة الانفصالية التي ينطوي عليها هذا الظهير الهادفة إلى الفصل بين الامازيغية والعربية أو بين العرب والامازيغ ، لكن يا ترى فما هي دواعي رجال زماننا إلى إحيائه من جديد في حلل وأشكال بألوان قوس قزح ؟ هل كان ما يراد به اليوم غير ما أريد به أمس أم أسيئ تفسيره فأصبحت الضرورة تدعو إلى إبقائه على ما هو عليه أو إعادة النظر فيه ، وتقتضي إحلال اللهجة الامازيغية محل اللغة العربية والفصل بين عرب المغرب وامازيغه بحجة أن هذه اللغة لم تعد صالحة وقد وجب تجاوزها وفاشلة لم تستطع بعد مئات السنين أن تحتل مكانها اللائق في المجتمع المغربي بصفة خاصة وبالأحرى المجتمعات الأخرى لذلك وجب إلغاؤها كدليل قاطع يبرر الدفع بأرشيفها إلى أحشاء البحر، والحكم عليها بواد عرائسها لعدم وجود رجال وأكفاء ، وحالها لا يختلف عن حال وطن لم يجد فيه مواطنين أذكياء ورجال أقوياء . والله ما رأيت في الأمر إلا خطوة أولى في بداية الطريق المؤدي إلى طمس هويتنا ، وفتح الباب على مصراعيه لغزونا من طرف لغات أخرى تمهيدا لاستعمار جديد باسم الانفتاح والتقدم والتحضر على حساب امازيغيتنا كلهجة وعربيتنا كلغة ، في ظل عولمة متوحشة يحتضنها نظام تربوي فاسد كان وما يزال يدمر أسس دولتنا ويحطم قواعد وطننا ويسعى إلى طمس هويتنا إلى أن صار مفرزا لكل منكراتنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والدينية .
وهل يعقل أن يجد المعلم بعد فوات الأوان نفسه قادرا على تعلم حروف تفيناغ ودراسة كلمات الامازيغ ومستعدا لتعليمها في المدارس العمومية وتدريسها كلغة قلما يلم بها حتى الامازيغ أنفسهم ،أو يجمعون على صياغتها في قاموس موحد يجمع معانيها حتى لو فرضنا ذلك جاهزا ماذا سينال حامل شهادة الدكتوراه الامازيغية من ورائها بعد عشرات السنين ، ثم ماذا ستكون قيمتها على المستوى الوطني والدولي في أفاق مئات السنين ، وفي عالم فشلت اللغة العربية رغم ما ملكته من إمكانات مادية ومؤهلات معرفية لعجز رجالها على إيجاد موطئ قدم لها فيه . الم يكن هذا العمر أولى أن يقضى في تعلم أية لغة أخرى إذا لم يجد التطوير لغتنا العربية أو يفيدها التحديث ، حتى كان ألأجدر أن تصرف أيامه في تعلم لغة وبالأحرى لهجة لا يتعدى العمل بها حدود التواصل بين شخصين في عائلة واحدة ، وإذا كنت مخطئا فيما أقول ربما يحتمل خطئي الصواب كما يحتمل صوابي الخطأ ، ولا عيب مادمنا نعوم في بحور الأخطاء منذ عشرات السنين ومازلنا ابعد ما نكون من شواطئ الصواب ، لست ضد امازيغيتي وهي لهجة أبائي ، ولست متعصبا لعربيتي وهي لغة ديني ، وإنما أريده بالقول جوابا شافيا ليطمئن قلبي على مستقبل أبنائي واستقرار وطني . ولست مناهضا للغات مكتسبة كالفرنسية والانجليزية والاسبانية ولم لا الصينية باعتبارها لغات تكنولوجيا الحضارات ، والتواصل بين شعوب العالم ووسيلة لطي المسافات بين القارات ، ولكن لم لا نؤسس للغتنا على وطننا قاعدة ننطلق منها إلى كل القارات ، ونبني محطة جديرة باستقبال مراكب وفودها على غرار اللغة الصينية التي بدأت تغزو العالم رغم ضيق مجالها ،لكنه ضيق لم يكن يثني قومها عن مواصلة الخلق والإبداع والعمل على تسويقها ورفع شانها بين الأمم والشعوب.
قد يعز علي إضاعة العمر في ما نراه جليا هو مضيعة لعمر أبنائنا ، وإضاعة وقتنا في ما نراه بأم عيوننا هو مضيعة لوقت أجيالنا ،وكلنا مسئولون على هذا الضياع الذي تتصدع منه أركان وطننا ،إلا أن نكون مثقفين ومفكرين متسيسين وسياسيين غير مثقفين ولا مفكرين من صنع نظام تربوي سقيم ، ينساقون بالعاطفة إلى أطماع مادية وسياسوية وانتخابوية على حساب الآخرين ، وينقادون لتامين مصالحهم الذاتية وبناء مستقبل أبنائهم على أنقاض مستقبل أبناء الأولين . بربنا حسبكم من المتاجرة بمعانات أبائنا ،والمراهنة بمستقبل أبنائنا ، فوطننا هو الرحم الذي ننحدر منه كلنا ، والمصنع الذي تتم فيه صناعة رجالنا ، والمعمل الذي يتم فيه صقل ضمير مجتمعنا ، وبالتالي الحقل الذي تتم فيه تنشئة أجيالنا . بربكم فرفقا بهذا الوطن الذي يجمعنا تحت سمائه ، ويسقينا من مائه ويملا صدورنا بهوائه وفي التالي يواري سوءاتنا تحت ثرائه ، وما أريد بهذا إلا الإصلاح ما استطعت اللهم فاشهد إني قد بلغت .